يتمظهر التخبط الإسرائيلي أكثر فأكثر، بين الحكومة والجيش. وهو ما ينعكس ضعفاً في الأداء وتراجعاً مستمراً عن الدخول في العملية العسكرية البرية إلى قطاع غزة. يحاول الإسرائيليين إيجاد ذرائع لانعدام قدرتهم على الدخول، إما يربطونها بالتفاوض في سبيل إطلاق سراح الرهائن، وإما بناء على طلبات أميركية، إلى أن تعزز القوات الأميركية من وجودها في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً في ظل بعض العمليات التي استهدفت مواقع للأميركيين في سوريا والعراق.
لا يقتصر التخبط الإسرائيلي على الداخل، هناك أيضاً تباين بين تل أبيب وواشنطن، حول تقديرات كثيرة، تتعلق بالهدف من الاجتياح البري، والقدرة على تحقيق ما تريده اسرائيل، بالإضافة إلى السؤال عن مرحلة ما بعد الحرب.
الاجتياح البري وعواقبه
كل ذلك، يسهم في وضع الإسرائيليين بموقف ضعيف ومحرج. يضيق الخناق أكثر على بنيامين نتنياهو، وهو ما قد يحوله إلى مجنون، يمكن ان يرتكب خطايا كثيرة، هي وحدها التي تبقي الخطر مرتفعاً سواء في الداخل الفلسطيني أو على الحدود مع لبنان. أمام هذه الوقائع، تتضارب الكثير من القراءات، بين من يعتبر أن إسرائيل لا تزال تحظى بالدعم المطلق من قبل واشنطن ودول أوروبية كثيرة. ولذا، ستبقى مصممة على الدخول البري أو استمرار العمليات العسكرية. ويرى أصحاب وجهة النظر هذه أن إسرائيل تسعى إلى وضع خطط حربية واضحة، بعضها يتصل بتنفيذ عمليات حربية جوية لإحداث أكبر قدر من التدمير، وتأمين القدرة لآلياتها البرية على التحرك بحرية بعد عمليات التدمير. وتالياً، الدخول البري وتقسيم المنطقة الشمالية من القطاع إلى مربعات والسيطرة عليها.
في المقابل، هناك وجهة نظر لا تتلاقى مع ما سبق. يرى أصحابها أن الولايات المتحدة الأميركية لا تريد الانخراط في الصراع، ولا استمرار اسرائيل بالاجتياح البري الذي سيحول المعركة إلى حرب إقليمية، خصوصاً بعد جملة رسائل أوصلتها طهران من خلال عمليات باتجاه القواعد والمواقع الأميركية في سوريا والعراق. ذلك يتوازى مع خطة إيرانية لتفعيل حلفائها في المنطقة. فبموازاة غزة، هناك تحرك في العراق، اليمن، والضفة الغربية، وبعدها يحين دور حزب الله في لبنان كصاحب الدور الأخيرة والأقوى، في حال اقتضت الحاجة أن يتجاوز الحزب مسألة ضرب الإسرائيليين وإشغالهم وتخفيف الضغط عن غزة.
دور الحكومة اللبنانية
يرى هؤلاء أن أميركا لا تريد الحرب ولا التصعيد، وهدفها الإستراتيجي أن تصل إلى تفاهم مع إيران، كما توفير مكاسب لإسرائيل. أي أنها تريد الطرفين معاً، ولذلك، لا بد من تجنّب الصراع الأوسع. وربما لهذا السبب، يشدد المسؤولون الأميركيون في تصريحاتهم على غايتهم الردعية من إرسال مدمراتهم وقواتهم العسكرية إلى المنطقة، وليس للاستفزاز، على حد قول وزير الخارجية أنتوني بلينكن. وهذا ما يندرج أكثر في الاتصال الهاتفي الذي أجراه بلينكن برئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي. وفي المضمون الأساسي، إن ما يقوله الأميركيون يهدف إلى ايصال رسائل لحزب الله لتجنّب الانخراط الموسع في الصراع، وتحويل ما يجري إلى حرب إقليمية.
في هذا السياق، يندرج أيضاً تصريح وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب، والذي قال إن حماس أبلغت إيران وحزب الله بقدرتها على الصمود لأشهر خلال المعركة البرية. لذا فإن حزب الله لن يتدخل، إلا إذا كانت نتائج الاجتياح البرّي إلى غزة كبيرة جداً في تأثيراتها على الحركة. كما أشار إلى أن حزب الله لن يتدخل في الصراع بشكل موسع وكبير، إلا في حال حصل اعتداء اسرائيلي كبير على لبنان.
كما نقل بو حبيب تأكيدات من حزب الله وإيران بأنهما لم يكونا على علم مسبق بعملية طوفان الأقصى، وأن بلينكن أقر بذلك أيضاً. من الواضح أن مضمون كلام بو حبيب، هو جزء مما أبلغه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لوزير الخارجية الأميركي. وهذا يندرج في سياق الدور الذي تلعبه الحكومة اللبنانية في تفادي حصول أي حرب أو تصعيد كبير، وفي الوقت نفسه التنسيق الكامل مع الحزب، الذي يعتبر أن لديه ثقة بهذه الحكومة وأدائها.
التواصل الإيراني الأميركي
مما لا شك فيه أن ايران لا تزال قادرة على مراكمة الأرباح، بالنظر إلى الموقف الأميركي، والتخبط الإسرائيلي. وهي أرباح لا بد من الاستثمار بها لاحقاً خصوصاً في حال عدم الذهاب إلى حرب إقليمية أو تصعيد كبير.
بعض مؤشرات التراجع الإسرائيلي عن الإجتياح البري لغزة، يقرأه حزب الله في خطوط الخطة العسكرية التي تحدث عنها وزير الدفاع الاسرائيلي، يوآف غالانت، والتي تتألف من ثلاث خطوات، الأولى استخدام النيران بقوة، والثانية تخفيف القتال والتركيز على عمليات الاغتيال، والثالثة إلغاء أي ارتباط بغزة.
وهذا يعني تراجع اسرائيلي عن فكرة الاجتياح البري، والاحتلال، وتهجير الفلسطينيين وكسر حماس نهائياً. أي التراجع عن تجاوز كل الخطوط الحمر التي وضعها الإيرانيون للتدخل. التحدي الأساسي المطروح أمام اسرائيل، هو ماذا بعد انتهاء العملية العسكرية في غزة؟ وهذا السؤال الذي لا جواب عليه. وكيف سيتم ترتيب وضع غزة، ومن الذي سيستلمها. إذ مستحيل أن تتسلمها السلطة الفلسطينية لأسباب كثيرة، من بينها أيضاً عدم موافقة ايران و”المحور” على ذلك.
هنا يمكن العودة إلى المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن والتي ستشكل مدخلاً أساسياً لتفاوض ايراني أميركي. ما أثبتته حرب غزة، عمق خطوط التواصل، وصلابة خطوط التفاوض المفتوحة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وهو تفاوض لم يسقط ولا يبدو أن أحد الطرفين يريد له أن يسقط أو ينتهي.