الثابت الوحيد في حرب غزّة أنّ هذه الحرب ستطول. يعود ذلك إلى عجز إسرائيل عن تحقيق انتصار حاسم على “حماس” من جهة، وإلى مصلحة بنيامين نتنياهو، من زاوية شخصيّة، في استمرار الحرب مع ما يعنيه ذلك من مزيد من المآسي ذات الطابع الإنساني من جهة أخرى.
هل في لبنان من يستوعب في العمق معنى أن تطول حرب غزّة التي دخلت شهرها الخامس، خصوصاً أبعاد التغيير العميق، نحو مزيد من العدوانية، الذي حصل داخل إسرائيل نفسها التي تلقّت ضربة هي الأولى من نوعها منذ قيامها في عام 1948؟
بوجود نتنياهو أو في غيابه تحوّلت إسرائيل إلى آلة حرب بعدما جعلها “طوفان الأقصى” تخوض حرباً ذات طابع وجودي. المسألة باتت مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى الدولة العبريّة التي فقدت قوّة الردع التي تحلّت بها منذ قيامها.
قلة الاستيعاب اللبناني
يبدو واضحاً أن ليس في لبنان، سوى قلّة موجودة في السلطة وخارجها، تستطيع استيعاب التطوّرات التي تحصل على الصعيدين الإقليمي والعالمي. المفارقة أنّ في داخل السلطة، حيث شخص مثل رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي تحديداً، يعرف ما على المحكّ إقليميّاً وداخلياً. لكنّ ميقاتي لا يجرؤ، لأسباب خاصة به على الأرجح، على السير خارج الخطّ الذي رسمه الحزب الذي يطالب بتطبيق القرار 1701 بغية تمرير الوقت ليس إلّا وكأنّ العالم يجهل أنّ الحزب، ومن خلفه إيران، رفض القرار الأممي منذ اللحظة التي دخل فيها وقف النار حيّز التنفيذ إيذاناً بوقف العمليات العسكرية بعد حرب صيف 2006.
لو طبّق لبنان القرار 1701، الذي كان فرصة لالتقاط أنفاسه، مثلما كان اتفاق الهدنة في عام 1949، منطلقاً للازدهار اللبناني، لما كانت حاجة إلى حرب في جنوب لبنان ولا إلى أعذار واهية، ولما كانت حاجة إلى أيّ نوع من التذاكي، لتبرير هذه الحرب… والشكوى من إسرائيل التي تعرف أين تمارس عدوانيّتها وكيف تمارسها. تعرف إسرائيل جيّداً ما الذي تريده. همّها فلسطيني أوّلاً وأخيراً. لو لم يكن همّها فلسطينياً بالكامل، وينحصر بالاستيلاء على الضفّة الغربيّة والقدس وتكريس الاحتلال لهما، لما انسحبت من جنوب لبنان في عام 2000 تنفيذاً للقرار 425.
وحدها الأيام ستكشف ما إذا كان قرار “حماس” بشنّ هجوم “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قراراً في محلّه، وهل القرار اتّخذه في غزّة نفسها القادة المحلّيون مثل يحيى السنوار ومحمد ضيف من دون التنسيق مع قادة الخارج. ستكشف الأيام أيضاً مدى تورّط “الجمهوريّة الإسلامية” الإيرانيّة في حرب غزّة ومدى علاقتها بهذه الحرب من منطلق أنّ “حماس” ارتبطت تاريخياً بإيران وكانت من بين استثماراتها الناجحة في المنطقة العربيّة.
ما يدعو إلى طرح تساؤلات في شأن الدور الإيراني هو ولادة حروب أخرى في المنطقة من رحم حرب غزّة. يربط بين هذه الحروب، خصوصاً حرب جنوب لبنان وحرب تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، عن طريق الحوثيين في اليمن، المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. يصبّ المشروع عند نقطة الاستفادة من حرب غزّة إلى أبعد حدود وفرض صفقة على الإدارة الأميركيّة التي ما زالت تأخذ وتعطي مع طهران. تؤكّد ذلك الضغوط التي مارستها إيران على الميليشيات التابعة لها في العراق كي توقف أيّ عمليات تستهدف قواعد أميركيّة. حصل ذلك بعد تهديد أميركي مباشر لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” التي ترى مصلحتها في تفادي أيّ صدام مباشر مع الولايات المتحدة، أقلّه في الوقت الراهن.
ربط لبنان نفسه بمأساة غزّة لأسباب إيرانيّة لا علاقة لها بمصالح البلد الصغير ومواطنيه. سيندم لبنان، حيث لا وجود لسلطة تجرؤ على التعاطي مع الحقيقة، على عدم تنفيذ القرار 1701 والتزامه حرفيّاً. سيندم ساعة لا ينفع الندم، تماماً مثلما ندم سابقاً على خرقه اتفاق الهدنة مع إسرائيل حين قبل توقيع اتفاق القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية في تشرين الثاني 1969. لم يجلب اتفاق القاهرة للبنان سوى الكوارث التي عرف النظام السوري استغلالها لوضع يده على البلد تدريجاً وصولاً إلى شراكة فرضتها عليه إيران في مرحلة معيّنة، خصوصاً منذ خلافة بشّار الأسد لوالده.
ما الذي سيمكّن لبنان من تحقيق أيّ مكسب من انضمامه إلى حرب غزّة؟ لا شيء أكيداً سوى مزيد من الدمار والخراب والتهجير من جنوب لبنان الذي كان مفترضاً أن يكون منطقة مزدهرة بفضل ما يتمتّع به من جمال وتنوّع وثروة، اسمها الإنسان، بدل أن يكون “ساحة” إيرانيّة.
إذا كان من مستفيد من حرب غزّة ومن استمرارها في المنطقة، فإنّ المستفيد الوحيد المحتمل هو إيران… مع التشديد على كلمة المحتمل. تلعب “الجمهوريّة الإسلاميّة” أوراقها بدهاء ليس بعده دهاء… فيما يلعب بلد مثل لبنان واقع تحت السيطرة الإيرانيّة ورقة التذاكي عبر طرح العودة إلى اتفاق الهدنة، السعيد الذكر، أو التذكير بالقرار 1701 الذي لم يحترمه الحزب يوماً!
تتراجع إيران في العراق وتصعّد في البحر الأحمر وفي جنوب لبنان وتتابع ضغوطها على الأردن عبر عصابات التهريب الموجودة في سوريا. لا يوجد في الوقت الراهن مَن يريد التصدّي فعلاً للمشروع التوسّعي الإيراني، خصوصاً في الولايات المتحدة حيث لا تزال إدارة جو بايدن إدارة حائرة، وحيث يرتكب المقيم في البيت الأبيض الهفوة تلو الأخرى.
من يحمي لبنان في هذه الحال بعدما تبيّن أنّ البلد ربط نفسه بحرب لا يدرك طرفاها، أي “حماس” والجانب الإسرائيلي، ما ستؤول إليه باستثناء تحوّل القطاع إلى أرض يستحيل العيش فيها؟