فتحت الخطة الأمنية التي تضمنت مكافحة الدراجات النارية المخالفة، في مختلف المناطق، الأنظار على حقيقة المشكلة العميقة بين المواطن اللبناني والدولة اللبنانية. أظهرت حجم الترهل والتضارب في مراكز القوى. علماً أن المشاكل لم تبدأ فقط في الضاحية الجنوبية لبيروت، التي شهدت تظاهرات واحتجاجات.
يمكن لهذه المشاكل أن تتفرع منها سيناريوهات كثيرة، بينها ما ذهبت إليه بلدية الغبيري في القول إن اعتداء عناصر قوى الأمن على موظفين وعاملين في البلدية، ناتج عن قرار على ما يبدو. ففي ذلك إعادة إحياء صراع قديم بين “الغبيري” كأكبر بلدية في الضاحية الجنوبية لبيروت، وبين بلدية بيروت وعدد من الوزارات حول “نادي الغولف”، وسوق الخضار، وغيرها.. في إطار الصراع على مساحات جغرافية ومن يكون صاحب القرار فيها.
إلهاء اللبنانيين؟
ومن بين السيناريوهات والتعليقات التي يلجأ اللبنانيون إلى إغداقها على ما جرى، هو اعتبار ما يجري وكأنه عملية إلهاء أو إشغال للبنانيين في ملفات كثيرة، معيشية وحياتية وأمنية، ربما لإشاحة النظر عن ملفات أو أزمات أخرى.
بعض أصحاب نظرية المؤامرة يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك، في الإشارة إلى أن هناك أياد خفية تحاول خلق مشاكل داخلية، في إطار إعادة إحياء الانقسام الذي قد يؤدي إلى شوارع وتظاهرات متقابلة، فيبررون العنف الذي استخدم في الضاحية مثلاً، وكأنه محفز لتحركات أكبر وأوسع ضد الدولة.
هناك من يعود بالذاكرة إلى لحظة 17 تشرين. فحينها كانت التظاهرات قد بدأت من الضاحية الجنوبية، ومن ثم انسحب هؤلاء بدعوة من حزب الله، فيما بقيت المكونات الأخرى في تحركاتها. أصحاب وجهة النظر هذه، يعتبرون أن التحركات في الضاحية قد تحفز مناطق أخرى على التحرك، في ظل استمرار الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتشكيل عناصر ضد قوى السلطة، لا سيما في ظل حالة الحرب القائمة في الجنوب والتي تحتاج إلى حل، وفي ظل استمرار الأزمة الرئاسية والفراغ، على الرغم من تحركات الدول الخمس والسعي لإنتاج تسوية، في سبيل إعادة تشكيل السلطة، لعل الشارع يكون عنصراً ضاغطاً في سبيل.
صندوق باندورا
ولكن بعيداً عن كل هذه النظريات، وبكل بساطة، لدى الاقتراب من أي مشكلة جدية في البلد، يظهر وكأنه صندوق باندورا، تخرج منه آلاف الأزمات الشائكة والمعقدة، من دون أي قدرة على لملمتها. الواقع يؤكد نفسه: هناك انهيار كامل في الدولة، ببنيتها ومؤسساتها، من دون أي قدرة على إعادة تركيبها أو ترتيبها في ظل الوضع القائم. لا سيما أنه منذ سنتين إلى اليوم، الدولة اللبنانية سمحت مثلاً باستيراد حوالى مليوني دراجة نارية، فيما مصلحة تسجيل الآليات مقفلة، وهناك امتناع عن التسجيل، وبالتالي استحالة شرعنة هذه الدراجات النارية. صحيح أن لبنان يحتاج إلى خطط أمنية متوالية لضبط الأمن والنظام، وخصوصاً الدراجات النارية والسيارات وغيرها من وسائل النقل، أو في مجالات مختلفة.. لكن ذلك يفترض توفير البدائل أو الإجراءات القانونية والإدارية في سبيل شرعنتها.
ما جرى في الضاحية الجنوبية، من إشكالات بين المواطنين وقوى الأمن الداخلي، أو ما حصل من قبل من إشكال بين الجيش اللبناني وقوى الأمن على خلفية حجز دراجة نارية لعسكري في الجيش.. كلها مؤشرات على علاقة المواطنين بالدولة. فلا يجد المواطن ما يفترض بالدولة أن تقوم به.
على أي حال، يمكن وصف لبنان بأنه جمهورية الدراجات النارية، بسبب غياب أي وسائل للنقل العام في البلد. فيما هناك سلطة سياسية غير قادرة على التحكم بأي مسار حيوي في البلد. فهي غير قادرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية لا في الحرب والسلم، ولا في إعادة تشكيل السلطة، ولا التأثير في مجريات الأحداث. وعندما تلجأ إلى الجوانب التكتيكية تصطدم بمعوقات كثيرة. ذلك ينطبق على ملف اللاجئين، وملف ضبط المخالفات في قطاع السير، أو الكهرباء، أو البناء أو غيرها، وهي عناوين لأزمات كثيرة إلى جانب الأزمة الكبرى التي يواجهها لبنان في إدارة ملف اللاجئين السوريين مثلاً.