كثيرون ممّن يقاومون في غزّة لا يعرفون “أبو عمّار”، فبعضهم كان صغيراً عندما قُتِلَ بالسم ياسر عرفات. لكنّهم جميعاً في دواخلهم يوجد “أبو عمّار”، ذاك “الختيار” الذي يعود شابّاً كلّ 50 عاماً. ألم يكن طوفان الأقصى 2023 في الذكرى الـ50 لانتصار أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
كانت الصورة كافية وافية، ولم يعد الأمر يحتاج إلى تظاهرات في العواصم العربية، ولا إلى استعراضات أمام السفارات الأجنبية، ولا حتى بيانات رسمية حكومية أو غير حكومية صادرة عن جمعيات وأحزاب أهلية.
صورة الطبيب غسان أبو ستة، في المؤتمر الصحافي الذي أقامته وزارة الصحة في غزّة مع جثث الضحايا ودماء الجرحى وذاك الشاب الذي يحمل شهيداً أمام المنصة بعد ساعات من المجزرة، كافية كي تُعلن وتؤكّد النتيجة.
في تعليق له على مقالة نُشرت في موقع “أساس” كتب القيادي الفلسطيني الزميل نبيل عمرو معلّقاً: “أحد مفاهيم النصر عند الفلسطينيين، أن يخرجوا من كلّ حرب وهم قادرون على رفع شارة النصر بدل الراية البيضاء.. ما قلّ ودلّ”.
هذه المرّة لم يرفع الأحياء فقط شارة النصر في باحة مستشفى المعمداني، بل رفعها معاً الأموات والأحياء الذين ينتظرون نحبهم ليؤكّدوا أنّهم ما بدّلوا تبديلا. لم يفتح الطبيب غسان أبو ستة المجال للأسئلة كما اعتدنا في كلّ المؤتمرات الصحافية بل رفع قبضته صارخاً: “من غزّة لن نخرج إلّا جثثاً”، فتفاعل معه الضحايا وأهاليهم أطفالاً ونساء وأشلاء صارخين: “من غزّة لن نخرج إلا جثثاً”.
يختلف مفهوم النصر عند الشعب الفلسطيني عن مفهوم النصر عند كلّ الشعوب والمجتمعات الإنسانية
شارة النصر في المعركة
هي شارة النصر، الحدّ الفاصل في المعركة. يعلم الفلسطيني في غزّة ورام الله والقدس وجنين والناصرة أنّه ليس بالضرورة أن يحرّر الأرض اليوم، أو أن يحرّر جيله الأرض اليوم، فهي مهمّة قدريّة عند الفلسطيني تتوارثها الأجيال يوماً بعد يوم وعقداً بعد عقد، وجيلاً بعد جيل، وهي قدرٌ فلسطيني.
يقول النائب والوزير السابق نهاد المشنوق بعد مجزرة مستشفى المعمداني إنّ “هذا الشعب منذ بداية ثورته يُحصي جثثه معركة بعد معركة وغارة بعد غارة. فعل القتل الذي يمارسه الصهيوني لن ينال من هذا الشعب. سؤالنا وحسرتنا فقط أين “أبو عمّار” اليوم؟ كم يحتاج إليه الفلسطينيون في هذه اللحظة، ليس هناك أعلم من الصديق نبيل عمرو ليخبرنا ماذا فعل “الختيار” لو حدث في غزّة ما حدث؟”.
يختلف مفهوم النصر عند الشعب الفلسطيني عن مفهوم النصر عند كلّ الشعوب والمجتمعات الإنسانية. لقد تمترس هذا الشعب منذ الأربعينيات من القرن الفائت خلف مصطلحات تتعلّق بالتضحية والفداء والموت والاعتقال والتعذيب، وكلّ ذلك من أجل القضية.
النضال بالمفهوم الفلسطينيّ
تعريف النضال بالمفهوم الفلسطيني هو مقدار ما يُقَدَّمُ من أضاحٍ من أجل القضية، ولا يُقاس النضال بكميّة الإنجازات الجغرافية أو السلطوية، أو ما شابه ذلك من مكتسبات تسعى إليها الدول والأحزاب والأنظمة.
الرتبة العسكرية العليا عند الفلسطيني هي أيقونة الفدائي كفرد والفدائيين كمجموعة. انظروا الى المُعتقَل الفلسطيني وهو يُساق من قبل جيش الاحتلال إلى السجن فتراه مبتسماً رافعاً شارة النصر وكأنّه يقول: “باعتقالي انتصرت على الأعداء”. ألم يفعل ذلك القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي وهو يُساق إلى المحكمة العسكرية؟ وألم يفعل ذلك ياسر عرفات “أبو عمّار” وهو يغادر بيروت عام 1982 حيث صعدت بعض القيادات اللبنانية إلى الباخرة لوداعه ومن بينهم النائب وليد جنبلاط الذي بادره بالسؤال: “أخ أبو عمّار إلى أين أنت ذاهب؟”. فردّ عليه قائلاً: “إلى القدس”. أولم يرفع شارة النصر ذاك الطفل الذي يُدعى “عمر” خلف جنازة والده يوم الأحد الفائت، ثمّ رفع صديقه “باسل” شارة النصر خلف جثّة “عمر” يوم الثلاثاء الفائت؟
الانتصار عند الشعب الفلسطيني هو أن لا يرفعوا الراية البيضاء. لم يرفعوها مطلقاً في كلّ نضالاتهم منذ إعلان النضال المسلّح، إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية. هي “ثورة حتى النصر”، والثورة كما تُعرّفها القواميس اللغوية تعني شهداء وجرحى معتقلين مختطفين ومعذّبين، لكنّهم دائماً وأبداً ثائرون حتى النصر.
شهداء مستشفى المعمداني في غزّة لم يرفعوا الراية البيضاء. لقد رأيناهم جميعاً عبر شاشات التلفزة، شاشات عجزنا وضعفنا وهواننا. لقد رأيناهم يرفعون شارة النصر. لقد انتصروا، وحقٌّ لهم أن ينتصروا.
هامش:
غزّة هي كما فلسطين ليست حركة حماس الإسلامية ولا أيّ تنظيم. غزّة هي فلسطين. ألم تسمعوا الأب فادي دياب رجل الدين المسيحي نائب مدير مستشفى المعمداني يقول بالأمس إنّ الاحتلال مجرم بغيض وإنّ غزّة وأهلها كما فلسطين مستمرّون في السير على هذا الطريق.