هل تعتمد طهران على الخلاف الأميركي الإسرائيلي حول مفاوضات الهدنة واقتحام معبر رفح من أجل التصعيد عبر أذرعها؟ وهل هي مطمئنّة إلى أنّ هذا الخلاف كفيل بضبط ردّ الفعل الإسرائيلي في رفح وجنوب لبنان؟ ما زالت المراهنة على قاعدة ضبط النفس الإيراني مقابل لجم واشنطن للتهوّر الإسرائيلي.
بعد موافقة “حماس” على الهدنة أمل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أن تكون “بداية نهاية جرائم الكيان الصهيوني”. وحين احتلّ الجيش الإسرائيلي معبر رفح اعتبر أنّ بنيامين نتنياهو “وبعض المتطرّفين يبذلون ما في وسعهم لإطالة الحرب”. توالت تطوّرات الخلاف الأميركي الإسرائيلي ميدانياً وسياسياً. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: “سنحقّق أهدافنا في الشمال والجنوب وسنشلّ حماس وندمّر الحزب ونحقّق الأمن”.
ردّت إسرائيل على تعليق الرئيس جو بايدن إرسال قنابل وأسلحة لجيشها، بتصعيد العمليات ضدّ الحزب فقتلت ثلاثة من كوادره. والأخير وسّع قصفه وطاول ثكنة كان غالانت غادرها للتوّ، فقُتِل جندي إسرائيلي… وكثّف الحوثيون استهدافهم للسفن في البحر الأحمر والمحيط الهندي وهدّد عبد الملك الحوثي بالتوسّع نحو البحر الأبيض المتوسط.
قبل المواجهة الإيرانية الإسرائيلية المضبوطة في نيسان الماضي، كانت حسابات الحزب بأنّ ترسانته الصاروخية تردع إسرائيل عن خوض حرب مفتوحة. أفما زالت هذه الحسابات صالحة؟ أم “الهندسة الأميركية” نظّمت تبادل القصف المباشر في 13 نيسان من قبل طهران على إسرائيل، ثمّ في 19 نيسان من قبل إسرائيل على أصفهان؟
المواجهة المباشرة أضعفت “ردعيّة” الحزب؟
يعتقد متابعون أنّ تمكُّن أميركا وإسرائيل من إسقاط أكثرية صواريخ إيران على إسرائيل، وفشل طهران في إسقاط ثلاثة صواريخ إسرائيلية على أصفهان، أضعفت القدرة الردعية لإيران والحزب. لكنّ الجدال في هذه المسألة لا يستبعد أن تتمكّن مسيّرات “الحزب” وصواريخه الدقيقة من اختراق الدفاعات الجوّية الإسرائيلية، إذا أُطلقت بكثافة. فالمسافة أقرب قياساً إلى تلك التي تفصل إيران عن إسرائيل.
تفضّل طهران الأسلوب الأقلّ كلفة، بمواصلة المواجهة مع إسرائيل عبر الوكلاء، خطّ الدفاع الأول عنها الذي يعفيها من الخسائر
مهما يكن، تواصل قيادة الحزب خطابها التعبويّ حول مواجهات الجنوب، بالقول إن قوّاته واثقة من قدرتها على المواجهة. يقول نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم: “يرفع العدوّ سقف المواجهة نرفع السقف بما يناسب الجبهة”. وهو أمر حصل مرّات في الأشهر الماضية، وأحياناً من دون تحقيق الحزب إصابات. صارت “قواعد الاشتباك” التي تُتَّبع عادة لتحريم إطلاق النار، وفق المنطق العسكري، تقوم على تبادل رفع سقف المواجهة.
خطاب “الحزب” إلى جمهوره
لكنّ هناك اعتقاداً بأنّ قيادة الحزب تتوجّه إلى جمهورها بخطاب الاعتداد بقدراتها لإقناع جزء منه أخذ يتساءل عن جدوى إقحامه في حرب لم تخفّف العبء عن غزة. فبياناته التي تعلن عمليات القصف ضدّ الجيش الإسرائيلي أو تكشف قتلى من كوادره تصطادهم المسيّرات الإسرائيلية، تبدأ بجملة واحدة: “دعماً لشعبنا الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسناداً لمقاومته الباسلة والشريفة…”.
لا يتوقّف قادته عندما يعتلون المنابر عن سرد الخسائر التي تنزلها “المقاومة الإسلامية” بالعدوّ. حتى إنّ الأمين العام حسن نصر الله دعا وسائل الإعلام إلى التركيز على الخسائر الإسرائيلية بدل إبراز خسائر المقاومة والجنوب. فهي حسب نصر الله “تضحيات معتادون عليها”، من منطلق إيماني وديني. وأفرد في كلمات عدّة له حيّزاً للخلاف بين نتنياهو وبايدن كإحدى علامات الخسائر الإسرائيلية. وهو أمر جديد لأنّ قناعة الحزب بأنّ أميركا هي التي توجّه إسرائيل.
قيل الكثير عن أسباب إبقاء المواجهة في الجنوب محسوبة بدقّة، ومبرّرات امتناع الحزب عن إخراج أسلحته الفعّالة. فالخسائر التي تعرّض لها بمقتل أكثر من 260 من كوادره العسكريين المهمّين، غير قليلة. والأضرار الكبيرة في بيئته الحاضنة بسبب استهداف المدنيين، دماراً وتهجيراً، قد يصعب تعويضها. القطاع الزراعي تضرّر لأكثر من عقد من الزمن بفعل تلويث التربة بالفوسفور من القنابل الإسرائيلية.
فشل طهران في إسقاط ثلاثة صواريخ إسرائيلية على أصفهان، أضعفت القدرة الردعية لإيران والحزب
سلوك الحزب بين الحكمة ونصرة غزّة
يستعيد البعض ضربات إيران الصاروخية على إسرائيل ردّاً على قصف قنصليّتها في دمشق في 1 نيسان في تفسير سلوك الحزب. كانت محسوبة ومدروسة بقصد عدم التسبّب بأضرار كبيرة توجب على إسرائيل اعتماد التناسب في ردّها في الداخل الإيراني. وبعد الضربة الإسرائيلية المدروسة على أصفهان، أبلغت واشنطن عبر القنوات الخلفيّة بأنّها لن تردّ ولا تريد توسعة الحرب. وفي العلن اعتبرها المرشد علي خامنئي “مسألة ثانوية”. على الرغم من ذلك أشاد الحزب بـ”الشجاعة المنقطعة النظير والحكمة الكبيرة والتقدير الرفيع للموقف على مستوى المنطقة برمّتها بل وعلى مستوى العالم”، معتبراً أنّها “تؤسّس لمرحلة جديدة على مستوى القضية الفلسطينية وعلى مستوى الصراع التاريخي مع العدوّ”. لكنّه تجنّب إصدار موقف واضح من قصف إسرائيل راداراً يُستخدم في حماية موقع نطنز النووي.
تفضّل طهران الأسلوب الأقلّ كلفة، بمواصلة المواجهة مع إسرائيل عبر الوكلاء، خطّ الدفاع الأول عنها الذي يعفيها من الخسائر. فهي تدرك أنّ نتنياهو يتحيّن الفرصة لإلحاق الخسائر ببرنامجها النووي. ولهذا دأبت على دعوة واشنطن إلى عدم الانزلاق إلى ما يحاول نتنياهو استدراجها إليه.
الحذر الإيراني من جرّ إسرائيل لأميركا إلى الاصطدام بها، يترجمه الحزب دقّة في حساباته جنوباً على الرغم من إصراره على الإبقاء على جبهة الجنوب اللبناني مفتوحة لدعم “حماس”.
هناك اعتقاداً بأنّ قيادة الحزب تتوجّه إلى جمهورها بخطاب الاعتداد بقدراتها لإقناع جزء منه أخذ يتساءل عن جدوى إقحامه في حرب لم تخفّف العبء عن غزة
“الهدوء” الإيراني والعقول الحامية
في كلمته في “يوم القدس” في 5 نيسان الماضي، قبل ثمانية أيام من القصف الإيراني على إسرائيل، قال نصر الله: “الأخوة الإيرانيون ليسوا مثلنا نحمى بسرعة، الأخوة الإيرانيون يجلسون ويفكّرون ويحسبون ويدرسون بهدوء الاحتمالات إلى آخره”… ودعا إلى عدم استعجال التوقيت وإلى تجنّب الحديث عن أنّهم “تأخّروا”.
عكس نصر الله بملاحظته حول الأسلوب الإيراني بعض ما يعتمل في صفوف مناصريه. تفيد المعطيات بأنّ بعض كوادر حزبه طالبوه باستخدام صواريخ دقيقة بحوزتهم ردّاً على الخسائر التي تلحقها إسرائيل عبر الاغتيالات. لكنّ نصر الله اختار سقف المواجهة المحدود لإدراكه أنّ نتنياهو سيستخدم الأسلحة التدميرية كما في غزة، وهو ما يرغب بتجنّبه. بعض الأوساط يردّد بأنّ أيّاماً مرّت تفادى خلالها نصر الله لقاء بعض قادته العسكريين حتى لا يطالبوه برفع سقف الردود على إسرائيل. والأرجح أنّ هذا ما قصده نصر الله بعبارة “نحمى بسرعة”، مشيراً إلى حماسة بعض العقول في الحزب.
على الرغم من إعلانه قبل شهرين أنّ “السلاح الأساسي لم نخرجه بعد، والقوات الأساسية لم نستخدمها بعد”… فإنّ نصر الله مضطرّ إلى الموازنة بين حاجة طهران إلى إبقاء جبهة الجنوب مفتوحة، وبين الخشية من أن تلحق إسرائيل الدمار الكبير بالبلد.
برّي قلق لأنّه تبلّغ كغيره من العواصم الغربية أنّ تمويل إعادة إعمار المجتمع الدولي لما تهدّمه الحرب سيكون صعباً
قلق برّي… وعرض هوكستين للإعمار
يكثر الحديث في بعض الأوساط الضيّقة عن أنّ حليف نصر الله رئيس البرلمان نبيه برّي شديد القلق من تدهور الوضع العسكري. وهو ليس مرتاحاً إلى محدودية التأثير على قرار إيران إبقاء جبهة الجنوب مفتوحة، ويخشى تفاقم الخسائر والأضرار في القرى الحدودية. وتسجّل هذه الأوساط أنّ حركة “أمل” تشير في البيانات عن الضحايا من عناصرها جرّاء القصف الإسرائيلي، إلى أنّهم يسقطون “دفاعاً عن لبنان”، خلافاً لبيانات “الحزب”.
برّي قلق لأنّه تبلّغ كغيره من العواصم الغربية أنّ تمويل إعادة إعمار المجتمع الدولي لما تهدّمه الحرب سيكون صعباً. فعلى هذا الأخير تحمُّل الكلفة المترتّبة على حرب أوكرانيا، وغيرها من الحروب، في ظلّ الأزمات الاقتصادية العالمية.
العارفون بتفاصيل العروض التي قدّمها الوسيط الأميركي آموس هوكستين خلال زيارته الأخيرة للبنان يشيرون إلى أنّ واحد من الإغراءات التي قدّمها مقابل قبول الحزب بوقف الحرب وبصيغة متدرّجة لتنفيذ القرار الدولي 1701 في الجنوب، أن تتولّى وكالة المساعدات الأميركية (يو.إس.إيد) إعادة إعمار ما تهدّم في الجنوب. فالجانب الأميركي يعتبر أنّ كلفة معالجة الدمار الحاصل حالياً في القرى الحدودية ممكنة مقارنة مع حجمه المنتظر في حال توسّعت الحرب. إلا أنّ قيادة الحزب أبقت على شرطها وقف الحرب على غزة، قبل وقف النار في الجنوب. فهي أسيرة هذا الشعار في وقت وظيفته تعزيز موقع طهران التفاوضي مع واشنطن.