بعيداً عن اليوميات التي أصبحت متصلة بتطورات الوضع في الجنوب ومآلاته، أو بالفراغ الرئاسي المستمر وانتظار نتائج عمل اللجنة الخماسية.. ما يدور لبنانياً، بالمعاني السياسية والاجتماعية وفي سياق كل أعمال التفاوض حتى، يؤشر إلى مخاطر كبيرة ستكون محدقة في المرحلة المقبلة. تبدأ تلك المخاطر من تكريس مسألة الشغور الرئاسي والفراغ في موقع رئاسة الجمهورية، الذي يبقى خاضعاً لمكاسرات وحسابات الربح والخسارة بالنسبة إلى أطراف سياسية تتصل بصراع المحاور في المنطقة. فلا يكون ذلك على حساب المسيحيين فقط، بل على حساب هذا الـ”لبنان”.
الهجوم والتهميش
بالنظر إلى مواقف القوى السياسية المختلفة، ربطاً بما يجري في الجنوب أو حرب غزة أو قرار الحرب والسلم أو الفراغ الرئاسي، يظهر حجم التباعد بين المكونات اللبنانية، بما يعيد الذاكرة إلى ما سبق الحرب الأهلية في العام 1975.
جملة أحداث شهدها لبنان في الفترة الأخيرة تنجم عنها مخاطر كبيرة. بدءاً بالحملة غير المبررة التي تعرض لها النائب سامي الجميل على وسائل التواصل الاجتماعي، وبخلفيات سياسية، مروراً نحو الهجمات المتقطعة التي يتعرض لها البطريرك الماروني بشارة الراعي، على خلفية مواقفه السياسية. وما بينهما من تهميش أو تهشيم يتعرض له المسيحيون في أخذهم إلى سياسات لا يريدونها.
ومما حصل مؤخراً أيضاً، هو موقف وليد جنبلاط والذي سارع إلى التراجع عنه، حين وصف أيام 14 آذار وشعار لبنان أولاً بـ”الشعار السخيف”. لكنه عاجل إلى التراجع على طريقته. وهو في الأساس أحد أبرز الحريصين على موقف المسيحيين في الرئاسة أو غيرها، ومن الذين يعتبرون أنه لا بد من الالتقاء معهم في البلد. لكن موقف جنبلاط هذا، إلى جانب موقفه الذي ألمح فيه أنه لا يمانع انتخاب أي رئيس حتى سليمان فرنجية، لا بد أن يقرأ سلباً لدى المسيحيين، وهم الذين ينظرون دوماً إلى حركية جنبلاط وواقعيته بأنها تأتي على حسابهم. وهذا نقاش طويل لا مجال لانتهائه، منذ أيام 14 آذار وما بعدها إلى اليوم. لكن موقف جنبلاط وجده المسيحيون محاولة تسعى إلى تهميشهم، طالما أنهم لم يعودوا على خط الالتقاء لا مع الدروز ولا مع السنّة، الذي تعرضوا لأعنف الهجمات من قبل التيارات والقوى، ولا في الأساس مع الشيعة.. لا بالنسبة إلى الكتائب والقوات، ولا بالنسبة إلى التيار الوطني الحرّ مؤخراً، إثر الخلاف على استحقاق رئاسة الجمهورية وغيرها.
الشلل والتعطيل
تجد القوى المسيحية الأساسية نفسها في حالة عزل، لا سيما إثر العشاء الذي جمع جنبلاط بسليمان فرنجية. وهذا ما يوجب على الرئيس السابق للحزب لتقدمي إعادة التحرك على خط اللقاء بجعجع والجميل وباسيل، كنوع هادف لاستعادة التوازن، بين المواقف الداعمة لحزب الله كمقاومة في مواجهة إسرائيل، وبين العلاقة مع القوى المسيحية. وهذا الدور في الأساس كان يفترض أن يناط بالسنّة، الذي لم يعودوا موجودين بأي تأثير أو فعالية سياسية.
أحد المستجدات أيضاً وربما من نتاجات هذه الوقائع، هو ما خرج به رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي اعتبر أن المسيحيين قد يجدون مصلحة في تغيير بنية النظام أو تعديله، لأن بقاءه بوضعه الحالي يؤبد حالة الشلل والتعطيل. وهي إحدى أخطر القناعات التي يمكن أن يركن إليها المسيحيون، بأن يجدوا أنفسهم خارج البلد ومهمومين بكيفية الإنعزال عنه أكثر.
أما الخوف فهو أن يدفع الانقسام الحالي حول قرار الحرب والسلم، وإمكانية إبرام تسوية إقليمية دولية في لبنان، تنعكس نتائجها لصالح حزب الله، المسيحيين إلى خيارت أخرى، على قاعدة لكم لبنانكم ولنا لبناننا. لا سيما أن كل الوفود الخارجية التي تأتي إلى لبنان وتبحث في مصير الرئاسة أو الحدود، تحصر مفاوضاتها الجدية بالثنائي الشيعي، الذي أصبح صاحب الحل والربط.
العزل والتغييب
برزت المخاوف المسيحية من إمكانية إبرام تسوية تكون متولدة من رحم الحرب على غزة، وبالتالي تكون على حساب المسيحيين، الذين سيستشعرون مجدداً محاولات لعزلهم، سواءً في الانتخابات الرئاسية، أو بالقرارات المصيرية المتصلة بمستقبل البلد. وهذا ما ينطبق على أي حالة من أحوال البلاد، سواءً حالة الحرب أم حالة السلم، حالة الفراغ أو التسوية، وفي حالات الانهيار أو البناء الاقتصادي.
والأخطر أن تكون مساعي عزلهم وتغييبهم عن الاستحقاقات الأساسية، مقابل انعدام وجود أي مسعى أو رؤية واضحة لإعادة إحياء دورهم والتركيز عليه. ما يؤشر إلى اختلال وطني عميق. فأخطر ما يمكن أن يتعرض له المسيحيون هو أن يؤول مصيرهم كمصير مسيحيي الدول العربية الأخرى. وهذا أحد أكبر التهديدات للبنان.
الاستمرار في ممارسة هذا العزل وعدم أخذ إرادة المسيحيين بالاعتبار ومراعاة مواقفهم السياسية، من شأنها أن تؤدي إلى تشظيات كبرى في بنية النظام وتركيبته وأساس تكوينه. بل من أسوأ ما يمكن أن يتم تكريسه هو التعاطي معهم كأقلية، أو تعاطيهم هم مع أنفسهم كأقلية. وهنا تقع مسؤولية مشتركة عليهم وعلى المسلمين للخروج من كل هذه الشرانق إلى مشروع أوسع يليق بطموحات اللبنانيين. وإلا فما بعد مواجهات الجنوب وحرب غزة سيكون لبنان في أسوأ حال.