من منبر دار الفتوى في بيروت بكلّ ما يحمله هذا المنبر من رمزية وطنية وإسلامية وقف سفير خادم الحرمين الشريفين وليد البخاري مكرّساً المعادلة السعودية تجاه لبنان قائلاً إنّ “المملكة العربية السعودية مع لبنان شعباً ومؤسّسات، ولن تألو جهداً في تقديم أيّ مسعى وجهد لحلّ ما يعانيه لبنان من أزمات متعدّدة”.
لم يكن كلام السفير البخاري من دار الفتوى مجرّد تصريح إعلامي دبلوماسي بعد زيارة بروتوكولية لشخصية لبنانية روحية، بل هو تصريح يحمل الكثير من الدلالات والمؤشّرات على قاعدة “وذّكر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين”.
مرجعيّة دار الفتوى
المتتبّع لحركة السفير البخاري في لبنان يجد أنّ زيارته لدار الفتوى في عائشة بكار باتت زيارة دورية ثابتة هي أشبه برسالة سعودية للتأكيد على ثلاث نقاط:
1- المملكة تنظر لدار الفتوى كمرجعية لبنانية وطنية أساسية وكممثّل لشريك أساسي في المعادلة الوطنية اللبنانية.
2- حرص المملكة العربية السعودية على انتظام المؤسّسة الدينية الأمّ في لبنان، أي دار الفتوى، وسيّدها الذي يحمل لقب مفتي الجمهورية اللبنانية، أي مفتي كلّ لبنان بكلّ طوائفه ومذاهبه، هو مفتي للشأن الوطني قبل الديني.
3- التأكيد على تبنّي المملكة العربية السعودية لمواقف المفتي عبد اللطيف دريان الوطنية والعربية، بخاصة أنّ الزيارة جاءت بعد منح مستشاره الكاتب محمد السماك جائزة الملك فيصل الدولية لخدمة الإسلام في العاشر من شهر كانون الثاني لإسهاماته العديدة والكبيرة في دفع الحوار بين الأديان ونشر ثقافة الحوار والتسامح في العالم، ليكون اللبناني الخامس الذي يحصد هذه الجائزة تجسيداً للشراكة الفكرية المجتمعية بين السعودية ولبنان.
المملكة العربية السعودية تسعى إلى علاقة ذات جدوى مع لبنان تقوم على مبدأ الفعّالية والتأثير والإبداع والابتكار. لم يعد في المملكة مكان للأوهام ومشاريعها أو للهواجس وإرهاصاتها
بالمقابل، فإنّ تصريح السفير البخاري من منبر الدار يحمل بعداً دلالياً على رغبة سعودية بإيصال رسالة واضحة لمن يعنيهم الأمر. فلا السفير البخاري يهوى التصريح ولا من عادته إطلاق مواقف من أجل المواقف دون هدف أو جدوى. فلطالما كانت تغريداته تقلق وتحرّك المياه الراكدة، فكيف بتصريحاته المباشرة، وتحديداً من منبر دار الفتوى؟
المملكة حريصة وراغبة بالتعاون ومساعدة لبنان. هي حريصة على لبنان الفاعل في محيطه الممثّل لرسالته السامية، كما قال عنه البابا يوحنا بولس الثاني إنّه وطن الرسالة، وحريصة على لبنان الإبداع الذي يثري محيطه وكلّ من تعاون معه.
المملكة العربية السعودية تسعى إلى علاقة ذات جدوى مع لبنان تقوم على مبدأ الفعّالية والتأثير والإبداع والابتكار. لم يعد في المملكة مكان للأوهام ومشاريعها أو للهواجس وإرهاصاتها.
الأجندة السعوديّة في لبنان
ليس هناك من أجندة سعودية في لبنان بل هناك رؤية سعودية يقودها الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد من أجل شرق أوسط جديد لبنان من ضمنه إذا أراد اللبنانيون، أو رؤية جديدة كما سمّاها وليّ العهد نفسه.
هي رؤية تقوم على محاكاة المستقبل عبر الإنماء والإبداع والابتكار يتقدّم فيها المفكّر والمبدع والطامح والمطوّر ولا مكان فيها للماضي وأحقاده وحروبه.
المملكة العربية السعودية في لبنان ليست بحاجة إلى كتل نيابية أو كتل سياسية أو زعامات كرتونية بل تبحث عن كتل مجتمعية لتحقيق أحلامها وطموحاتها، والرغبة الممكنة لتحقيق كلّ هذا خارطة طريق تعتمد على العلم والتخطيط والمثابرة.
المملكة العربية السعودية بحاجة إلى لبنان الزراعة كشريك غذائي، ولبنان الصناعة كشريك صناعي، ولبنان الرسالة كشريك في صناعة الهويّة العربية الثقافية التي تحاكي المستقبل وطموحات الأجيال.
لم تعد المملكة العربية السعودية بقيادة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان أرضاً خصبة لأنصاف الحلول السياسية والفكرية بل باتت بيئة جذّابة للاستثمار الجادّ العلمي المبنيّ على رؤى واضحة في السياسة والاقتصاد والفكر والإعلام.
هذه هي المملكة العربية السعودية، فهل يعي اللبنانيون ذلك أم يبقون أسرى لصورة نمطية انتهت إلا في عقولهم؟!