من وراء الهجوم الإرهابي الذي وقع في أحد المراكز التجارية الكبيرة في العاصمة الروسيّة موسكو؟ هل هو تنظيم داعش؟ وإذا كان هو الفاعل فمن وفّر له الدعم الاستخباري واللوجيستي بعد طول غياب عن العمليات الكبرى؟ هل هي المعارضة الشيشانية المتعاونة والمنفتحة مؤخرا على اوكرانيا التي تخوض حرباً وجودية مع روسيا منذ أكثر من عامين؟ ثمة قرائن مثيرة قد تفتح باب الاسرار الكبيرة في الصراع الأوروبي الذي يكاد أن يتحوّل إلى حرب عالمية حقيقية، لا تقتصر ميادينها على القارة الأوروبية.
سارعت موسكو إلى اتهام أوكرانيا بالضلوع في الهجوم على مجمّع “كروكوس” لإقامة الحفلات الموسيقية، استناداً إلى مؤشرات أبرزها وجهة الفرار نحو الحدود الأوكرانية، واعتقال المتورّطين قرب الحدود. لكن هل هذا يكفي؟ قد تكون جنسيات الفاعلين مهمة في هذا الإطار. قيل إن بعضهم من طاجيكستان المجاورة لأفغانستان حيث ينشط تنظيم داعش خراسان، حيث يشنّ تفجيرات واعتيالات ضد حركة طالبان وقيادييها. لكن مصدراً مطلعاً أفاد لـ “اساس” بأن هؤلاء أو بعضهم على الأقل. هم شيشانيون معارضون لروسيا وللرئيس الشيشاني رمضان قديروف. معطوفاً عليه إعلان قديروف عن استمراره في مكافحة الإرهاب، مع أنباء عن دور لقواته في اعتقال المتورّطين. وإذا صحّ ذلك، فسيتأكد أكثر فأكثر تورّط أوكرانيا، باعتبار أن المعارضة الشيشانية تقاتل إلى جانب الجيش الأوكراني.
ويضيف المصدر نفسه لـ “أساس”، أن تعيين وزير الدفاع الأوكراني”المسلم” التتري الأصل رستم عمروف العام الماضي. أدى إلى تعاظم المشاركة الإسلامية في المجهود الحربي الأوكراني.
بالمقابل، ومع تكاثر العمليات الإرهابية لداعش في أفغانستان عقب الحروج الأميركي منها عام 2021، على الرغم من توجيه ضربات قوية لمعاقلهم وخلاياهم. انتشر في حسابات مؤيدة لطالبان في وسائل التواصل الاجتماعي، العام الماضي. ما مفاده أن الاستخبارات الأوكرانية تدعم داعش افغانستان بسبب التقارب الروسي الأفغاني الراهن. كما أن جنوداً أفغاناً سابقين يشاركون حالياً في الحرب الأوكرانية وهم الذين دربتهم واشنطن وفروا من أفغانستان.
سارعت موسكو إلى اتهام أوكرانيا بالضلوع في الهجوم على مجمّع “كروكوس” لإقامة الحفلات الموسيقية، استناداً إلى مؤشرات
واشنطن ترفض الاتهام الروسي لأوكرانيا
في السياق العام، ترفض الدولة الروسيّة تصديق تبنّي داعش للعملية، وتوجّه سهامها السياسية حتى الساعة إلى كييف التي تتبنّى الولايات المتحدة الأميركية الدفاع عنها. اشتداد زخم التصعيد بين الدولتين حتى الساعة مداره بيانات تقابلها أخرى. وبين الاثنتين لا حقيقة رسمية إلا الهجوم الضخم وإقرار المنفّذين بأنّ وجهة الهروب كانت العاصمة الأوكرانية.
الاتّهام الروسي لأوكرانيا ومن ورائها أميركا رفضه لـ “أساس” مصدر مسؤول في مكتب الأمن القومي الأميركي، طلب عدم ذكر اسمه لأسباب إدارية. في المقابل، قالت مصادر أمنيّة روسيّة مطّلعة على سير التحقيقات لـ “أساس” أيضاً إنّ “أحد الإرهابيين اعتُقل أمس بالقرب من مكان حدوث المجزرة. وقد أدلى بمعلومات ساعدت في معرفة هويّة المنفّذين وكذلك الوجهة التي كانوا سيقصدونها بعد الانتهاء من العملية. قيل إنّها الأراضي الأوكرانية”.
هذا بالتحديد ما كان ذهب إليه الرئيس فلاديمير بوتين في أوّل تعليق له على المجزرة. إذ اتّهم أوكرانيا بشكل صريح، وقال إنّ منفّذي الهجوم “حاولوا الاختباء والهروب نحو أوكرانيا، حيث تمّ إعداد منفذ لهم من أجل عبور الحدود”.
الرواية الأميركيّة: روسيا لا تصدّق
بحسب المصدر الأميركي فإنّ “التحذير الذي أطلقته واشنطن لرعاياها قبل أيام من هجوم وشيك في روسيا كان علنيّاً وواضحاً، وأساسه معلومات متينة حصلت عليها الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) وجهاز الاستخبارات البريطاني MI6 عن نيّة “داعش – خراسان” تنفيذ هجوم إرهابي في روسيا”.
جاء الهجوم بعد إعلان موسكو قبل يوم واحد عن تحوُّل “العملية الخاصة” في أوكرانيا إلى “حرب” بشكل رسمي
التحذير الأميركي كانت أسبابه متأتّية من مراقبة تحرّكات واعتراض اتّصالات عناصر “داعش – خراسان” الذين نشطوا في أفغانستان وباكستان، وفيهم عناصر من الجمهوريات الروسيّة.
كما أنّ “موسكو تقاعست ولم تحاول التواصل مع الاستخبارات الأميركية، وهذا الأمر لو حصل كان بلا شكّ سيرفع من معدّلات إحباط الهجوم. لكنّ الجانب الروسي اعتبر هذه التحذيرات محاولات ترهيب ولم يتعاون بشكل بنّاء”، على حدّ قول المصدر الأميركي، الذي كشف أنّ الجهة في داعش التي هاجمت موسكو هي عينها التي نفّذت هجوم إيران مطلع العام قرب ضريح قاسم سليماني. اتّضح في وقت لاحق أنّ كلّ الاتّهامات الإيرانية لواشنطن لم تكن في محلّها، وذلك بعدما تأكّدت طهران أنّ “داعش – خراسان” يقف خلف الهجوم الإرهابي.
بحسب معلومات “أساس” فإنّ قسماً كبيراً من عناصر “داعش – خراسان” هم عناصر سابقون في “شبكة حقّاني” المصنّفة إرهابية.
أسئلة روسيّة تتعلّق بالمصادفات
الرواية الأميركية هذه قابلتها مصادر روسية لـ “أساس” بمجموعة من الأسئلة والمصادفات في ما بدا وكأنّ روسيا باقية على إصرارها في اتّهام العاصمة الأوكرانية كييف بالعملية التي بلغ تعداد ضحاياها زهاء 150 شخصاً بين قتيل وجريح. لذا قرأت موسكو العملية على الشكل التالي:
ـ جاء الهجوم بعد إعلان موسكو قبل يوم واحد عن تحوُّل “العملية الخاصة” في أوكرانيا إلى “حرب” بشكل رسمي.
– وقع بعد استخدام موسكو لحقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضدّ مشروع قرار الولايات المتحدة الذي تدّعي أنّه يرمي إلى وقف إطلاق النار في غزة؟..
ـ بعد نجاح روسيا “في تقديم صورة ديمقراطية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي فاز فيها الرئيس بوتين بأعلى نسبة تأييد. وحقّقت الانتخابات أعلى نسبة مشاركة، وهو ما دحض كلّ الروايات الغربية عن قمع المعارضين، وإجبار المواطنين الروس على الانتخاب”.
ـ بعد تحذيرات عمّمتها سفارة الولايات المتحدة في موسكو على المواطنين الأميركيين. دعتهم بالتحديد إلى الابتعاد عن المراكز التجارية والعروض الموسيقية. ما يطرح علامات استفهام كبيرة عمّا حصل.
بُعيد وقوع المجزرة بنحو نصف ساعة، سارعت وزارة الخارجية الأميركية إلى تبرئة أوكرانيا، بعدما تقدّمت بالعزاء لذوي الضحايا
“داعش” يتبنّى الهجوم
بُعيد وقوع المجزرة بنحو نصف ساعة، سارعت وزارة الخارجية الأميركية إلى تبرئة أوكرانيا، بعدما تقدّمت بالعزاء لذوي الضحايا. وهو ما فُهم على أنّه محاولة لاستباق أيّ اتّهام توجّهه موسكو إلى الأوكرانيين. الأمر الذي دفع بالمتحدّثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إلى مطالبة واشنطن بتوضيح أو الإفصاح عن المعلومات إذا كانت فعلاً موجودة لدى واشنطن. متّهمة كييف في الوقت نفسه بأنّها تحوّلت على أيدي الدول الغربية إلى “مركز لانتشار الإرهاب الدمويّ”.
لكن بعد ذلك، كان أن تبنّى تنظيم “داعش ـ خراسان ” العملية بواسطة بيان مقتضب نشره التنظيم عبر وكالته المعلومة/المجهولة “أعماق”، وكانت وكالة “رويترز” أوّل من نقله.
سبب سعي “داعش – خراسان” لمهاجمة روسيا
بين الروايتين والبيان المُبتسر لتنظيم “داعش ـ خراسان” ينبغي قبل أيّ شيء البحث في أسباب الهجوم عند فاعليه المفترضين، وهم من “المتطرّفين الجهاديين”، ووجودهم ليس مُستجدّاً. في هذا السياق يقول كولين بي كلارك، محلّل مكافحة الإرهاب في مجموعة “سوفان”. هي شركة استشارات أمنيّة مقرّها نيويورك: “لقد كان تنظيم داعش – ولاية خراسان يركّز اهتمامه على روسيا على مدى العامين الماضيين، وكثيراً ما ينتقد الرئيس فلاديمير بوتين في دعايته لتدخّله في أفغانستان والشيشان وسوريا”.
يشير الهجوم إلى تصعيد ملحوظ في عمليّات داعش-خراسان، وهذا ما يؤكّد عداء الجماعة لروسيا والرئيس فلاديمير بوتين. ويرتبط أحد الأسباب وراء استهداف داعش-خراسان لروسيا بالتدخّلات العسكرية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا. إذ لا تزال صورة الكاهن الذي رشّ مياهاً على إحدى الطائرات الروسية قبل توجّهها إلى سوريا ماثلةً في الأذهان. حصل هذا فيما كانت المُكاسرة بين المقاتلين الروس و”الجهاديين” في ذروتها على الأرض، وهو ما ساعد في بقاء الرئيس السوري في حكمه.
علاوة على ذلك، تضمّ صفوف تنظيم “داعش ـ خراسان” مقاتلين من آسيا الوسطى يحملون عداءً فطريّاً، إذا صحّ التعبير، لروسيا. وهو ما يغذّي دوافع المجموعة لتنفيذ مثل هذه الهجمات على الأراضي الروسيّة.
إنّ منفّذي هجوم موسكو “كانوا يتّجهون نحو الحدود مع أوكرانيا، عندما تمّ اعتقالهم في وقت مبكر السبت”
ما هو تنظيم “داعش – خراسان”؟
داعش-خراسان الذي يُعرف باسم (ISIS-K) هو فرع للتنظيم الأيديولوجي الذي ظهر أوّل مرّة في سوريا والعراق. ويأتي اسم التنظيم “خراسان” من الاصطلاح عليه للمنطقة التي تشمل أفغانستان وباكستان.
تأسّس تنظيم داعش – خراسان في عام 2015 على يد أعضاء ساخطين من “طالبان”. وشهدت الجماعة انخفاضاً في عدد مقاتليها إلى النصف تقريباً. أي قرابة 2,000 مقاتل، بحلول عام 2021 نتيجة مزيج من الغارات الجوّية الأميركية وقوات “الكوماندوس” الأفغانية التي قتلت العديد من قادتها، حسب صحيفة “نيويورك تايمز”.
برز اسم الجماعة بعد وقت قصير من إطاحة “طالبان” بالحكومة الأفغانية سنة 2021. وأثناء الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، نفّذ التنظيم تفجيراً انتحارياً في المطار الدولي بكابول في آب 2021. أدّى إلى مقتل 13 جندياً أميركياً وما يصل إلى 170 مدنيّاً.
ماضٍ دمويّ
شهدت روسيا العديد من الهجمات في الماضي ارتكبتها جماعات شيشانية تسعى للاستقلال عن موسكو. كما شهدت عمليات إطلاق نار من دون دوافع سياسية أو منسوبة إلى أشخاص غير متوازنين نفسيّاً.
والحدث الأبرز في هذا السياق كان عام 2002. عندما احتجز مقاتلون شيشانيّون 912 شخصاً رهائن في مسرح دوبروفكا بموسكو للمطالبة بانسحاب القوات الروسية من الشيشان.
انتهت عملية احتجاز الرهائن بهجوم شنّته القوّات الخاصة أسفر عن مقتل 130 شخصاً، جلّهم قضى اختناقاً بالغاز الذي استخدمته الشرطة.
أوكرانيا ميدان روسيا وأميركا
إذا صحّ في مشهد كهذا أنّ روسيا والولايات المتحدة الأميركية قد تفتتحان جولة جديدة من التصعيد بينهما، فهذا سيحصل على أرض أوكرانيا. إذ ستُنشب واحدتهما أظافرها بالأخرى هناك. وما يؤيّد هذه الوجهة هو أنّ كلتيهما مادّتهما السجاليّة هي كييف.
ترفض الدولة الروسيّة تصديق تبنّي داعش للعملية، وتوجّه سهامها السياسية حتى الساعة إلى كييف
كما نقلت وكالة إنترفاكس للأنباء عن الكرملين أنّ جهاز الأمن الاتّحادي الروسي أبلغ بوتين باعتقال 11 شخصاً مشتبهاً بهم. موضحة أنّ 4 منهم “ضالعون في الهجوم على نحو مباشر”. وقال جهاز الأمن الاتّحادي إنّ منفّذي هجوم موسكو “كانوا يتّجهون نحو الحدود مع أوكرانيا، عندما تمّ اعتقالهم في وقت مبكر السبت”. وأضاف، وفق إنترفاكس، أنّهم “كانوا على اتّصال مع أشخاص على الجانب الأوكراني”، لافتاً إلى أنّ الهجوم “تمّ التخطيط له بعناية”.
ينفي الوضع، الذي آلت إليه أمور موسكو وواشنطن راهناً. أيّ طابع نظريّ أو افتراضي، وذلك لمصلحة توتّر متصاعد كلّ أسبابه متوافرة سابقاً وتزداد وفرةً حاليّاً.