أطلق مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة الشيخ عبد اللطيف دريان نداءً وطنيّاً في رسالته إلى اللبنانيين لمناسبة رأس السنة الهجريّة. كانت رسالة قصيرة. كنّا نتمنى لو أنّها استفاضت في معالجة “الملفّات الشائكة والمعقّدة” التي تعاني منها البلاد في فصول وأبواب. فأزمة انهيار البلاد وتحلّل الدولة ومؤسّساتها تستحقّ. ولكن لا بأس. فخير الكلام ما قلّ ودلّ. وقد اختصرت الرسالة الأزمات ومسبّباتها ودلّت على طريق الخروج منها.
يحدّد المفتي سبب أزمات البلاد بـ”إصرار كلّ فريق على جذب المياه إلى طاحونه وحده”. كلام ذكّرني بقول البطريرك الراحل نصرالله صفير: “لا تسير عربة يجرّها حصانان يشدّ كلّ منهما باتجاه”. ولا عجب في ذلك. فالالتقاء بين المرجعيّتين الدينية والوطنيّة يعود إلى زمن البطريرك الراحل والمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد. وهو واضح اليوم بين رسالة المفتي وعظات البطريرك بشارة الراعي وتصريحاته ورسائله البطريركيّة. لا يقتصر التقاء المرجعيّتين الوطنيّتين على توصيف الأزمة وأسبابها، إنّما يتعدّاه إلى الالتقاء على الثوابت الوطنيّة. وهذه أبرز الثوابت في رسالة المفتي وعظات البطريرك:
1- احترام الدستور: يرى المفتي أنّ الحلّ للخروج من أزمة انتخاب رئيس للجمهورية يكمن في احترام الدستور. “والدستور حدّد مساراً واضحاً لانتخاب الرئيس”. وهذا الذي ما انفكّ البطريرك الراعي ينادي به من خلال دعوته النواب إلى الاضطلاع بمسؤوليّاتهم وانتخاب رئيس بحسب ما ينصّ عليه الدستور، منتقداً عدم إجراء دورات متتالية لانتخاب رئيس وتعطيل النصاب. وقد أشار المفتي أيضاً إلى “تعطيل ما لا يصحّ تعطيله”.
الإنقسام السياسيّ التي تعاني منها الطائفة السنّيّة أدّت إلى إضعاف الموقف المسيحي المطالِب بقيام الدولة القويّة والفعليّة في مواجهة مشروع “دويلة الحزب” و”أيرنة” لبنان
2- التمسّك بالعيش المشترك: يدعو المفتي إلى الحفاظ على “العيش المشترك” خوفاً من “الفَتَت”. بحسب شخصيّة دينيّة إسلاميّة مقرّبة جداً من المفتي، “يخشى المفتي طروحات الفدراليّة” التي تكرّر الكلام عنها في الآونة الأخيرة من قبل أفراد أوحت وكأنّ هناك مناخاً مسيحيّاً مؤيّداً لها، علماً أنّ هذا الطرح ليس طرحاً مسيحياً. إذ ترفضه بكركي والأحزاب المسيحيّة. فالبطريرك الراعي، كما أسلافه، ما انفكّ يدعو إلى الحفاظ على العيش المشترك ووحدة البلاد. وهنا لا بدّ من توضيح كلام سمير جعجع حول إعادة النظر بتركيبة الدولة. فهو لا يعني الدعوة إلى الفدرالية. وهذه المسألة واضحة لدار الإفتاء بحسب الشخصيّة الدينيّة المقرّبة من المفتي.
3- الحفاظ على هويّة لبنان العربيّة: يدعو المفتي اللبنانيين إلى التأكيد للعالم أنّه “مهما اختلفنا فسنبقى محافظين على لبنان العربيّ الهويّة والانتماء”. كلام، كما أكّدت لنا الشخصيّة الدينيّة الإسلاميّة، موجّه ضدّ “مشروع الممانعة وولاية الفقيه الذي يسلخ لبنان عن محيطه العربيّ” ويجعله غريباً عن هويّته وتاريخه وثقافته. وهذا ما يصبو إليه البطريرك الراعي عبر دعوته إلى انتخاب رئيس يعيد إصلاح علاقات لبنان مع محيطه العربيّ بعدما أدّت سياسات الحزب وتدخّلاته العسكريّة وتصريحاته ضدّ الدول العربيّة وأنظمتها وحكّامها إلى عزل لبنان عربياً.
4- تقديم مصلحة لبنان واللبنانيين على المصالح الشخصيّة والطائفيّة: المفتي، مثل البطريرك، يطلق صرخته الوطنيّة لا من أجل مصالح خاصّة به أو بالطائفة التي يمثّل، إنّما رأفة بـ “المواطن الذي يعاني الأمرّين في معيشته”. وصرخته “هي صرخة كلّ الناس”. فرجل الدين على تماسّ يوميّ ومباشر مع المواطن الفقير الذي يطرق باب المسجد أو باب الكنيسة طلباً للمساعدة. والشيخ والمفتي كما الكاهن والأسقف والبطريرك يسمعون له ويحاولون مساعدته بما تيسّر، عملاً بآيات “الدين السمح” وتعاليم “دين المحبّة”. ولكنّ حلّ الأزمة التي أدّت إلى إفقار اللبنانيين هو بيد الدولة.
اجتماع السُّنّة مطلب مسيحيّ وضرورة وطنيّة
أطلقت رسالة المفتي نداء إلى النواب السُّنّة للاجتماع وإنهاء حال التشرذم. وجاء فيها أنّه “لا بدّ من أن تجتمعوا ليس لحفظ حقوقكم فقط، بل ولتحقيق المصلحة الوطنيّة”. وأضافت: “إن لم يكن لكم بسبب وحدتكم وزن في انتخاب الرئيس العتيد، فلن يكون لكم وزن في الحكومة ورئيسها”. هاجس المفتي يتخطّى أزمة انتخاب رئيس للجمهوريّة إلى اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة. ليس لأنّ رئيس الحكومة من الطائفة السنّيّة، بل لأنّ السلطة التنفيذيّة، بحسب الدستور، هي في الحكومة مجتمعة. وللخروج من الانهيار وإصلاح علاقات لبنان العربيّة لا يكفي انتخاب رئيس نزيه ومؤمن بهويّة لبنان العربيّة، إنّما يجب اختيار رئيس حكومة نزيه وقادر على إعادة إصلاح علاقات لبنان العربيّة أيضاً، ويجب تشكيل حكومة منسجمة قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة وطنياً وعربياً ودولياً، وعلى تقديم مشروع إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها واقتصادها وماليتها ومجتمعها على أي مشروع آخر، وقادرة على إعادة ترميم علاقات لبنان العربية والدوليّة.
الإنقسام السياسيّ التي تعاني منها الطائفة السنّيّة أدّت إلى إضعاف الموقف المسيحي المطالِب بقيام الدولة القويّة والفعليّة في مواجهة مشروع “دويلة الحزب” و”أيرنة” لبنان. وهنا لا بدّ من التذكير بـ “الخطيئة السياسيّة” التي ارتكبها ميشال عون منذ عودته إلى لبنان وتصويب هجومه السياسيّ على “الحريريّة السياسيّة” وتحالفه مع الحزب. والسبب العميق لذلك أنّ التيار الوطنيّ الحرّ لا يمثّل الوجدان المسيحيّ ولو ادّعى حرصه على “المسيحيّة المشرقيّة” وتمثيلها. فمن يمثّلون الوجدان المسيحي، كما ذكرنا في مقال سابق لنا في “أساس”، هم البطريركية المارونيّة وحزبا القوّات والكتائب الذين يطالبون بالدولة القويّة وباحترام دستورها وبالحفاظ على علاقاتها العربيّة والدوليّة. وهذه الأطراف قلقة اليوم على لبنان من التشرذم الذي أصاب الطائفة السنّيّة الشريكة في تأسيس الكيان والدولة وفي ميثاق العيش المشترك. وهي تدرك أنّه في الشرق الدينيّ، لا يمكن إصلاح علاقات لبنان مع الدول العربيّة ذات الغالبيّة السنّيّة من دون استعادة الطائفة السنّيّة لدورها الوطنيّ وانتهاء حال التشرذم الذي أصابها. من هنا اجتماع السُّنّة هو أيضاً مطلب مسيحي وضرورة وطنيّة.