تحملُ الغارة الإسرائيليّة على القنصليّة الإيرانيّة في دِمشق مؤشّرات عديدة تجعلها مُختلفة عن كلّ سابقاتها التي استهدفت المُستشارين الإيرانيين في الأشهر الماضية.
ثلاثة مؤشّرات جديدة تحملها الغارة الإسرائيلية:
1- هي المرّة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل بشكلٍ واضح وعلنيّ “مُنشأة دبلوماسيّة” لإيران تُعتبَر بمنزلة أرضٍ إيرانيّة في العاصمة السّوريّة.
2- تعمّدَت تل أبيب تنفيذ الضّربة مُباشرةً بعد مُغادرة القنصل الإيرانيّ المبنى، ووجود السّفير حسين أكبري في إيران، للإيحاء أنّ الهدف عسكريّ بغطاءٍ دبلوماسيّ.
3- عمليّاً، مَحَت تل أبيب كُلّ فكرة “الخطوط الحمر” التي بذلت إيران جهدها لرسمها منذ دخولها المُباشر في الحرب السّوريّة في 2012.
إذ كشَفَ مصدر إقليميّ واسع الاطّلاع لـ”أساس” أنّ الخطوط الحمر التي كانت إيران قد رسمتها مع إسرائيل بشكلٍ ضمنيّ هي الآتية:
– عدم استهداف أيّ مُستشار أو عسكريّ إيرانيّ الجنسيّة.
– عدم استهداف أيّ منشأة دبلوماسيّة إيرانيّة.
– تحييد مطارَيْ دمشق وحلب من القصف الإسرائيليّ.
بالتّالي صارَت كلّ الخطوط التي رسمتها إيران ساقطة عمليّاً بعد استهداف الطّائرات الإسرائيليّة لكلّ “المحظورات الإيرانيّة” في الأشهر الأخيرة.
ما تُريدُه تل أبيب من غارة القنصليّة ترسيخ مُعادلات وقواعد اشتباكٍ جديدة مع طهران
تصفية جيل سُليماني
هي الضّربة الأقسى التي تتلقّاها إيران و”فيلق القدس” منذ اغتيال قاسم سُليماني في العاصمة العراقيّة بغداد مطلع عام 2020.
استهدفت غارة إسرائيليّة عصرَ الإثنيْن مبنى القنصليّة الإيرانيّة وسكَن السّفير في العاصمة السّوريّة دمشق. أسفرَت عن اغتيال عددٍ من المُستشارين الإيرانيين. أبرزهم العميد محمّد رضا زاهدي، الذي يُعتبَر “رئيس أركان فيلق القُدس” في لبنان وسوريا، ومُساعده العميد محمد هادي حاج رحيمي.
بعد العميديْن رضي موسوي وصيّاد خدائي وصولاً إلى محمّد رضا زاهدي، وما بينهم من اغتيالات حصلت في إيران وفي سوريا. تكون إسرائيل قد وجّهت “ضرباتٍ قاصمة” إلى “جيل سُليماني” في فيلق القُدس. هذا الجيل الذي عمِلَ طوال 3 عقود على ترسيخ النّفوذ العسكريّ والأمنيّ لإيران من سواحل البحر الأحمر في اليَمَن، وصولاً إلى مياه البحر المُتوسّط في لبنان، مروراً بالعراق وسوريا.
ما تُريدُه تل أبيب من غارة القنصليّة وما قبلها من غارات استهدفت “المُستشارين الإيرانيين في سوريا” ترسيخ مُعادلات وقواعد اشتباكٍ جديدة مع طهران، وأن تُخيّرها بين القبول بها أو توسعة الحرب التي لا تُريدها إيران.
باتت إيران اليوم مُحرجة. فإن لجأت إلى الرّدّ، تكون قد أعطَت تل أبيب ضالّتها التي تبحثُ عنها في توسيع نطاق الحرب. وإن أحجَمَت طهران عن ذلك، كما حصلَ في الاغتيالات السّابقة، عليها أن تكون مُستعدّة لتلقّي المزيد.
ترسيخ المُعادلات الجديدة
يقول مصدر مسؤول في مكتب الأمن القوميّ الأميركيّ لـ”أساس” إنّ الضّربة الإسرائيليّة جاءَت ردّاً على مُحاولة “حركة النّجباء” العراقيّة استهداف البارجة “ساعر 6″، التي تُعدّ الأكثر تطوّراً في سلاح البحريّة الإسرائيليّ بطائرة مُسيّرة أثناء رسوّها في ميناء إيلات مساءَ الأحد الماضي. فالبارجة الإسرائيليّة مُجهّزة بأعلى تقنيّات التّخفّي، ولا يُمكن لحركة النّجباء أن تُحدّدَ مكانها إلّا بمُساعدة تكنولوجيّة ومعلوماتيّة من إيران. فالمُسيّرة أخطأت هدفها بأمتارٍ قليلة، بحسب ما يذكر المصدر. وهذا ما دفَع تل أبيب للرّدّ بقسوةٍ على إيران.
هي الضّربة الأقسى التي تتلقّاها إيران و”فيلق القدس” منذ اغتيال قاسم سُليماني في العاصمة العراقيّة بغداد مطلع عام 2020
في الوقت نفسه يُؤكّد المصدر الأميركيّ أنّ بلاده لم تكن على علمٍ بالعمليّة، وأنّ الجانب الإسرائيليّ أبلغَ المعنيّين في دوائر القرار الأمنيّ في واشنطن نيّته تنفيذ “ضربة ضدّ إيران في سوريا” قبل دقائق قليلة من تنفيذ الغارة. من دون أن يُحدّد الإسرائيليّون أنّ الهدف هو القنصليّة الإيرانية.
تجنّبت تل أبيب إبلاغ واشنطن بالعمليّة سلفاً لئلّا يرفضها الأميركيّون أو يلجأوا إلى تسريبها لطهران. كما حصلَ في مرّات سابقة خلال العاميْن الأخيريْن. إذ كانت أميركا سرّبت لطهران عبر بغداد غيرَ مرّة تفاصيل ضربات إسرائيليّة قبل حدوثها. وهو ما حالَ دون اغتيال قيادات إيرانيّة في سوريا كانَ أبرزهم رضي موسويّ. الذي اغتيل لاحقاً، وفريق من مُساعدي قائد قوّة القدس إسماعيل قاآني والقائد العسكريّ لحركة الجهاد أكرم العجّوري.
تحملُ الغارة الإسرائيليّة على القنصليّة الإيرانيّة في دِمشق مؤشّرات عديدة تجعلها مُختلفة عن كلّ سابقاتها
هذا يُؤكّد تضارب وجهات النّظر الإسرائيليّة والأميركيّة في الشّرق الأوسط. إذ تسعى تل أبيب إلى توسيع نطاقها وجرّ أميركا إلى مواجهة مباشرة مع إيران. أمّا واشنطن التي تُحضّر نفسها لانتخابات رئاسيّة بعد أشهر قليلة، وتُفاوض إيران حول نفوذها لا تُريد الحرب الواسعة.
تنصّلت واشنطن من الغارة الإسرائيليّة. وبحسب معلومات “أساس”، سارعَ الأميركيّون إلى إبلاغ مندوب إيران لدى الأمم المُتحدّة القيادي السّابق في فيلق القدس سعيد إيرواني أنّهم لم يكونوا على علمٍ بالعمليّة. كذلك فعلوا عبر إبلاغ طهران بذلك عبر قناتَيْ التّواصل العُمانيّة والسّويسريّة.
كانَ ردّ إيرواني على الرّسالة الأميركيّة أنّ واشنطن هي راعية تل أبيب، وإن كانت ترفض هذه الضّربة، فعليها أن تقول ذلكَ في العلَن وليسَ “تحت الطّاولة”.
صارَت المُعادلة بين إسرائيل وإيران والحزب في لبنان واضحة المعالم: أيّ استهداف بحريّ لأهداف إسرائيليّة سيُقابله اغتيال لضبّاط “جيل سُليمانيّ”. حصلَ هذا مطلع العام بعدما استهدفَ الحرس الثّوريّ سفينة تجاريّة إسرائيليّة قُبالة سواحل المالديف بطائرة مُسيّرة، فردّت تل أبيب باغتيال العميد رضي موسوي في دِمشق. وأيضاً بعد مُحاولة استهداف “ساعر 6”.
استهدفت غارة إسرائيليّة مبنى القنصليّة الإيرانيّة وأسفرَت عن اغتيال عددٍ من المُستشارين الإيرانيين
أمّا في لبنان فتُريد إسرائيل تثبيت مُعادلة الجولان وسماءَ الجليل مُقابل بعلبك – الهرمل. وهذا ما سَعَت إليه تل أبيب باستهدافاتها المُتكرّرة لمنطقة البقاع الشّماليّ.
المأزق الإيرانيّ
لم يعد خافياً الهدف الإسرائيلي بتوسيع نطاق الحرب في المنطقة. وكذلكَ لا يخفى على أحدٍ أنّ طهران لا تُريد توسعة الحرب. هذا يعني أنّ القيادة العسكريّة والأمنيّة في تل أبيب تقتنصُ كلّ فرصة أمامها لضرب الوجود الإيرانيّ في سوريا ما دامت الأخيرة لن تردّ أبداً.
كما يدخلُ ذلك ضمن السّياسة التي يعتمدها الجيش الإسرائيلي في محاولة بناء الثّقة بالمؤسّسة العسكريّة بعد الضّربة الموجعة التي تلقّتها في “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي. إذ يسعى الجيش الإسرائيليّ إلى تعزيز ثقة الإسرائيليين به، على اعتبار أنّه القوّة الوحيدة القادرة على “درءِ الأخطار التي تتربّص بالشّعب اليهوديّ” من أيّ جهة جاءت.
هكذا باتت إيران أسيرةَ تدخّلها في المنطقة. فالتغلغل الذي ظنّت يوماً سيكونُ خطّ دفاعٍ أوّل عنها، صارَ عبئاً على كاهلها. وها هم قادة فيلقها يتساقطون الواحد تِلوَ الآخر. فلا هي قادرة على تحمّل تبعات الرّدّ إن أقدَمت على ضرب إسرائيل “الهائجة قتلاً وتدميراً” منذ السّابع من أكتوبر. ولا هي قادرة على السّكوت لئلّا تأتي ضربات تكون أعنف ممّا قبلها.