ارتفع منسوب التهديدات والتحذيرات المتبادلة بين قادة إسرائيل وقادة إيران بالتزامن مع العمليات العسكرية في غزة، والاشتباكات اليومية المتصاعدة بنوعيتها وأسلحتها وخسائرها للجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، على جبهة جنوب لبنان.
في ظل ما يحصل من حشد قطعات حربية أميركية وبريطانية، والكشف المقصود عن وجود ستّ سفن صينية في البحر، وزيارات زعماء غربيين لإسرائيل محملين بهدايا عسكرية، ونصائح ميدانية، وما يجري من لقاءات واجتماعات واتصالات مع مصر ومع المملكة العربية السعودية، يخال المرء أن حرباً عالمية على وشك أن تقع على رقعة الشرق الأوسط، وقد تمتد إلى مناطق اخرى.
التريّث في التصعيد قبل العودة إليه؟
أول من أمس تصاعدت لهجة التهديدات الإسرائيلية ضد إيران، وعاد وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى لغة التحذير والتهديد بأن المنطقة “جاثمة على برميل بارود سيصبح خارجا عن السيطرة”، رداً على تشديد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو على قرب اجتياح غزة أثناء زيارته قطعات الجيش على الحدود مع لبنان متوعّداً إياه والحزب بضربات “فوق الخيال”.
ترك تسلسُل الأحداث مجالاً لشتى التكهنات.
طُرح السؤال حول تراجع عوامل التريث في تصعيد العمليات العسكرية التي حاولت أوساط دبلوماسية غربية في باريس تحدث إليها “أساس” أن توليها أهمية. وهي عوامل يمكن تعداد الآتي منها:
1- أسلوب الأرض المحروقة في قصف قطاع غزة بالتدمير والتهجير فتح باب التقديرات بأن إسرائيل تحقق ما تريد من دون اقتحام. وأنها قد تكتفي بحصار القطاع واصطياد قادة “حماس” إما بعمليات خاطفة على الأرض أو بالقصف الجوي. هذا فضلاً عن محاذير اقتحام بري بالمشاة والدبابات، قد تنجح “حماس” في إجهاضه نظراً إلى وجود الأنفاق تحت الأرض، وإلى حصول جناحها العسكري على كميات كبيرة من صواريخ “كورنت” الروسية المطوّرة ضد المدرعات والتي يمكنها أن تلحق خسائر كبيرة بالجيش الإسرائيلي.
ارتفع منسوب التهديدات والتحذيرات المتبادلة بين قادة إسرائيل وقادة إيران بالتزامن مع العمليات العسكرية في غزة، والاشتباكات اليومية المتصاعدة بنوعيتها وأسلحتها وخسائرها للجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، على جبهة جنوب لبنان
الحشد الأميركيّ للردع لا الحرب وانتخابات الرئاسة
2- النصائح الأميركية لنتانياهو ومجلس الحرب الإسرائيلي بالتريث في دخول غزة، التي عبّر عنها الرئيس جو بايدن خلال زيارته تل أبيب، لكن من دون إلغاء هذا الهدف. لا تخفي تلك الأوساط الدبلوماسية أن “فائض” التضامن من قبل بايدن والدول الغربية مع إسرائيل إثر 7 أكتوبر (تشرين الأول الجاري)، يسمح له ولقادة هذه الدول بممارسة نفوذهم على الرؤوس الحامية في الدولة العبرية كي يخفضوا سقف الأهداف، نظراً إلى كلفتها العالية على الدول الحليفة وعليهم.
3- إن كلّ التصريحات الأميركية، وآخرها لوزير الخارجية أنتوني بلينكن يوم الأحد، بأن التأهّب العسكري الأميركي في البحر وفي قواعد أرضية هو للردع. وهذا يعني أن أميركا لن تخوض الحرب بل تريد منعها. وبمعنى آخر أعطت أميركا إسرائيل كل الدعم الدبلوماسي والسياسي العالمي مقابل السعي إلى الحدّ من اندفاعتها العسكرية.
4- تعتقد أوساط سياسية لبنانية أن حسابات إدارة بايدن لا تستثني الجانب الانتخابي المتعلق بترشحه للرئاسة. وفي هذا المجال تتحدث عن التظاهرات العربية في أميركا، الرافضة لتدمير غزة والمتضامنة مع الفلسطينيين ضد القصف الهمجي، لا سيما من الأميركيين ذوي الأصول العربية في ولاية ميشيغان التي كان دورها حاسماً في إيصاله إلى البيت الأبيض. فهؤلاء سينقلبون على الأرجح نحو المرشح الجمهوري للرئاسة في نهاية 2024، سواء كان دونالد ترامب أو غيره.
بين مكاسب الحزب ومصلحة إيران
5- بدا بالنسبة إلى هذه الأوساط الدبلوماسية أن حرب الاستنزاف لإسرائيل، التي يخوضها الحزب من جنوب لبنان، تحوّلت إلى حرب استنزاف له أيضاً، بسبب ارتفاع عدد مقاتليه الذين قُتِلوا في المعركة، وبسبب تصاعد النزوح من الجنوب إلى مناطق متفرقة وسط صعوبات العيش والإنفاق تحت ضغط الأزمة الاقتصادية الخانقة.
6- إن اقتحام مقاتلي الحزب المنطقة الشمالية بات أكثر كلفة بكثير بعد الحشد الإسرائيلي الكبير على الجبهة، على الرغم من احتفاظه بصواريخ فتاكة لقصف مواقع مهمة في إسرائيل أبرزها المطارات العسكرية. كما أن اقتحام مقاتليه كما فعل مقاتلو “حماس” في 7 تشرين الأول فقَدَ عنصر المفاجأة، حسب جهات لبنانية متابعة للخيارات العسكرية. والمفاجأة حصدتها غزة.
7- بعض الأوساط الغربية يعتبر أن الحزب يفكر كثيراً قبل أن يقدم على فتح جبهة لبنان حتى لا يفقد مكاسب وأوضاعاً مريحة يتمتع بها راهناً. في رأيها أن الحزب يجني المال من كلّ عملياته الشرعية وغير الشرعية وبات العديد من قادته أغنياء، وأنه صار الطرف الوحيد في لبنان الذي يتمتع بصفة “صانع الرؤساء”، وقوته أهّلته للإمساك بمفاصل القرار اللبناني الداخلي. لكن الأوساط نفسها تقر بأنه إذا رأت إيران أن مصلحتها تقتضي أن يفتح الحزب جبهة لبنان فسيفعل.
يدعو بعض المراقبين إلى رصد ما إذا كانت الحروب بالواسطة الدائرة بين المعسكر الروسي الصيني الإيراني وبين المعسكر الغربي، هي التي باتت تتحكم بحسابات ارتفاع لهجة التصعيد بدل الردع لمنع الحرب
مكاسب الحزب… وقرار إسرائيل
إلا أنّ مصدراً دبلوماسياً فرنسياً أبلغ “أساس” أنّ مسألة فتح الجبهة اللبنانية “لم يعد قرارها متعلقاً بإيران وقرارها في هذا الشأن، بل بإسرائيل التي من المؤكد أنّها لن تتحمل بالتأكيد استمرار الحزب في قصف مواقع جيشها على الحدود. وهي، حسب المعطيات المتوافرة لدى باريس، ستقصف لبنان على الرغم من الجهود التي بذلها الجانب الفرنسي والنصائح التي أسديت لإسرائيل بالامتناع عن ذلك. وللأسف لبنان سيتحمل عواقب ما يقوم به الحزب على الحدود”.
ورأى المصدر أنّ ما يتذرع به الحزب حول وجود “قواعد الاشتباك” هو أمر “غير منطقي”. ويتعاطى المصدر مع مسألة قواعد الاشتباك عند الحزب “بكثير من الاستغراب”.
لا حلول جذريّة… والحرب تتعدّى المنطقة؟
في المقابل كان لافتاً أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في كلمته أثناء اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية في جدة الأربعاء الماضي، دعا إلى “منع زيادة التوتر جغرافياً”. وقال: “يجب أن تكون هذه دعوة للجميع، وخاصة للغرب، من أجل الاستيقاظ. في السيناريو الذي تزداد فيه التوترات جغرافياً، بالتأكيد لن يبقى كل ما يحدث في المنطقة داخل المنطقة”.
على عكس ذلك اكتفى بيان الرئاسة المصرية بعد قمة القاهرة الدولية الإقليمية للسلام السبت الماضي، بالتحذير “من خطورة امتداد النزاع الحالي إلى مناطق أخرى في الإقليم”. فقمة القاهرة لم تتمكن من إحداث اختراق في شأن السعي إلى حل جذري للصراع على أساس قيام الدولتين، وهو المشروع الذي لم يعد يستقطب اهتمام دول الغرب على الرغم من وروده في أدبيات وتصريحات القادة الغربيين “رياءً وخبثاً” كما يرى خبراء فرنسيون. والغربيون لم يكونوا مهتمين في القاهرة إلا بأن يتضمن بيان قمة “السلام” إدانة لـ”لحماس”، وحق إسرائيل بالدفاع عن النفس، وهو ما أفشل صدور بيان إجماعي على السلام عن القمة.
هل من بُعد “أوكرانيّ” للتصعيد؟
فتح التحذير التركي عيون المراقبين وبعض الأوساط الدبلوماسية المواكبة للاتصالات الدولية، على ربط انعكاسات ما حصل في 7 تشرين الأول بالصراع الدولي الكبير الدائر في أوكرانيا بين دول الغرب والحلفاء الآسيويين من جهة وبين روسيا وحلفائها، ومنهم الصين، من جهة ثانية. ومن هنا الإضاءة على وجود سفن حربية صينية في بحر عُمان والخليج. إنه امتداد لمفاعيل الحرب في أوروبا، وبالتالي للصراع على النفوذ في الشرق الأوسط. وهناك مراقبون يرون أن ما قاله الوزير التركي ربما القصد منه صراع الحضارات والأديان وتهديد الاستقرار الداخلي في دول الغرب.
بغضّ النظر عن تسريب بعض التقارير التي تحدثت، بعقلية “المؤامرة”، عن أن روسيا والصين وإيران كانت على علم بعملية “حماس” الصاعقة، في سياق الصراع الدولي، فإن المتصلين بالقيادة الروسية يرون أن الحشد السياسي والدبلوماسي الغربي إلى جانب إسرائيل، هدفه الحؤول دون خسارتها كقاعدة متقدمة في المنطقة للنفوذ الغربي الاستراتيجي، وأن تحويل مساعدات عسكرية ومالية كانت مخصصة لأوكرانيا إلى الدولة العبرية يعني أن الشرق الأوسط بات أولوية قياساً إلى خطة هزيمة روسيا في أوكرانيا.
يدعو بعض المراقبين إلى رصد ما إذا كانت الحروب بالواسطة الدائرة بين المعسكر الروسي الصيني الإيراني وبين المعسكر الغربي، هي التي باتت تتحكم بحسابات ارتفاع لهجة التصعيد بدل الردع لمنع الحرب. يشمل ذلك تهديد وزير الصناعة الإسرائيلي بالأمس بأنّه في حال إيذاء إسرائيل بفتح جبهات من قبل أذرع إيران “سنذهب إلى رأس الأفعى إيران في الليل وسنتأكد أنهم سيدفعون ثمناً باهظاً”.