غالباً ما تكون هزيمة “الدول” بهزيمة سردياتها. وخصوصاً عندما تكون الدول عبارة عن كيانات قائمة على غلبة الآخرين وتهجيرهم، بالمجازر أو الإبادات الجماعية. وعليه، لا بد من القول ببساطة شديدة، أنه بعد مرور أربعين يوماً على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، إن اسرائيل بسردياتها المعروفة، وعلى الرغم من كل الدعم الدولي الذي حظيت به، أصبحت على طريق الهزيمة، لا بالمعنى العسكري إنما في شرعية وجودها. فالمجازر التي ارتكبتها، وعمليات التهجير الممنهج، والفشل العسكري والاستخباراتي، إضافة إلى الموقف الغربي بدعمه المطلق لها، أعاد إحياء الشرخ العميق والتاريخي بين الغرب والشرق، أو بين الغرب والعرب بالتحديد.
فلن يكون بإمكان إسرائيل ولا الإسرائيليين التعايش مع هذه المنطقة بعد اليوم. أدنى مقومات الأمن لهم لن تكون متوفرة بعد الآن. وهذا ما سيدفعهم إلى المغادرة، لتصبح الهجرة مضادة، من إسرائيل إلى خارجها.
إدارة التوحش
أربعون يوماً على واحدة من أوسع المجازر التاريخية، والعالم يتفرج، يبحث عن توفير الذرائع ليستمر بتوفير الدعم، حتى سقط ما تبقى من قيم غربية في امتحان غزة، فحتى السردية الأميركية سقطت، خصوصاً إثر إعطاء البيت الأبيض، وجو بايدن، الضوء الأخضر لإسرائيل لاقتحام مستشفى الشفاء. أربعون يوماً، ولم تنجح آلة القتل الإسرائيلية بتحقيق أي هدف عسكري ضد حركة حماس، لم تتمكن من الوصول إلى مستودع واحد للأسلحة أو الصواريخ، لم تتمكن من أسر ولو حفنة مقاتلين ولا على قادة، ولم تنجح في أي عملية اغتيال.. لم تفعل سوى سحق المدنيين. هو مشهد يشبه إلى حدّ بعيد كل ما اقترفته داعش في سوريا والعراق من دون تحقيق أي أهداف سوى “إدارة التوحش”.
أثبتت الحرب القائمة جملة أمور، فمع نتائج الفشل المتراكمة للإسرائيليين يظهر ان حركة حماس كانت قد أعدت عدّة محكمة، مبنية على توقعات دقيقة لرد الفعل الإسرائيلي والخطة العسكرية التي سينفذونها، فاستمرت حماس متقدمة خطوات على الجيش الإسرائيلي. كما أظهرت الفشل الذريع للاستخبارات الإسرائيلية، والتي قدمت قراءات مبنية على سرديات تافهة تتفاعل بموجبات الحقد والانتقام. وهي السمة الأساسية التي طبعت عمل نتنياهو وفريقه منذ ما قبل طوفان الأقصى، واستفحلت بعدها. ومن أهم ما تصنعه الحرب، هو إسقاط الرواية الإسرائيلية، والتي حاولت قلب الرأي العام العالمي لصالحها، بينما بدأت تظهر النتائج العكسية، في احتجاجات شعبية، ورسمية، وداخل إدارات دول متعددة من داعمي اسرائيل ومشروعها. فما يقوم به الإسرائيليون على الملأ وعلى مرأى العالم، هو تكرار سرديات ادعوا معاناتهم منها ولا سيما الهولوكوست، بينما يمارسون هم أسوأ نماذج الإبادات والتهجير والتدمير الانتقامي والعقاب الجماعي.
الفشل حتماً
وما ينطبق من فشل في غزة، هو متوارث منذ العام 2009 مروراً بعام 2014 و2018، ويحاكي أيضاً فشلاً ذريعاً في لبنان عام 2006. إذ أن الأهداف التي وضعها الإسرائيليون أبرزت هشاشة الكيان، وانعدام قدرته على تحقيق أي منها. إذ في حرب تموز وضع الإسرائيليون هدفاً أو شعاراً هو سحق حزب الله وهزيمته، وهو ما لم يتحقق على الإطلاق، فيما خرج الحزب أقوى من الحرب، وتزايدت قوته وصولاً إلى اليوم بوصفه أقوى جيش غير نظامي، كما انتصرت سرديته على حساب السردية الإسرائيلية.
الفشل الذي يسري في غزة، يسري في لبنان، فلا إمكانية لدى اسرائيل ولا جيشها في إعادة الأمن إلى غلاف غزة، كما يرفض سكان المستوطنات الشمالية العودة بسبب انعدام الأمن أيضاً. وهذا، من دون أي قدرة على خوض معركة أو حرب نظراً لمراكمة الفشل، ولحالة الوهن. وهو ما سيعزز حماس أكثر في غزة، وحزب الله في لبنان.
بعد الفشل المدوي في مستشفى الشفاء، عسكرياً ودعائياً، وإثر السعي الإسرائيلي للبحث عن انتصارات مزعومة تحولت إلى “فضيحة”، ستتفعل حركة الاتصالات الدولية في سبيل الوصول إلى وقف لإطلاق النار، مع عدم تحقيق أي هدف عسكري. وهو ما يمكن أن يعيد إنتاج صيغة مشابهة لصيغة القرار 1701 في جنوب لبنان عام 2006، وهي صيغة ستدفع الإسرائيليين إلى مغادرة غزة.. وما بعد غزة وأبعد.