لم يعد خافياً على أحد أنّ رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو لا يريد فقط تدمير البنى التحتية العسكرية لحركة حماس، بل تصفية القضية الفلسطينية ودفن حل الدولتين إلى الأبد. لكن الغطاء السياسي غير المسبوق الذي حصل عليه من إدارة بايدن وقادة الغرب بشكل عام، لشن حرب بلا هوادة على قطاع غزة، اصطدم بموقفَي المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية. إذ رفض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تهجير الفلسطينيين، وأكد حقهم في إقامة دولتهم وفقاً للقرارات الدولية ذات الصلة. كما اعلن الرئيس المصري منذ بداية الحرب وخلال انعقاد مؤتمر السلام في القاهرة السبت الفائت انه يرفض تصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار، وتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وتوطينهم في شبه جزيرة سيناء، كما يرفض المساس بالامن القومي المصري.
وبالتالي يكون هناك ثلاث اولويات امام المملكة ومصر الآن:
1- إحباط مخطط تهجير الفلسطينيين.
2- تأمين ممر مستدام للمساعدات الانسانية عبر معبر رفح.
3- العمل على وقف الحرب.
في المقابل، لا تبدو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مستعجلة للبحث بوقف الحرب. ويعني النقاش الذي يجري في الدوائر الأميركية والإسرائيلية حول إدارة قطاع غزة بعد الحرب، أن الأميركيين لم يغادروا مربعات سياستهم المعروفة بعدم الضغط على إسرائيل من أجل قيام تسوية على اساس حل الدولتين.
فماذا تملك مصر والمملكة من اوراق لإعادة إحياء مسار الحل هذا عندما تضع الحرب أوزارها؟
تمتلك مصر موقعاً جيوستراتيجياً قادراً على التأثير الكبير في محيطها. ولدى قيادة مصر خبرة كبيرة في التعاطي مع الأهداف الإسرائيلية التي تسعى إلى اضعاف الأمن القومي المصري، وكذلك خبرة في نقاط الضعف الإسرائيلية الأمنية والسياسية والعسكرية
بن سلمان يمسك بالأوراق المهمّة
تشعر المملكة بأن نتانياهو يهدف الى فرض واقع جيوسياسي جديد في المنطقة قائم على دفن حل الدولتين. لكن المملكة المتمسكة بحل القضية الفلسطينية بما يتوافق مع القرارات الدولية ذات الصلة تحتفظ بالعديد من الاوراق السياسية المهمّة في حماية القضية الفلسطينية وفي عدم التفريط بحل الدولتين.
في هذا الإطار، لم يتأخر بن سلمان في استخدام ورقة وقف مفاوضات التطبيع مع إسرائيل في وجه الحرب المفتوحة على غزة، وما يزال يحتفظ بعدد من الاوراق المهمة التي يمكن استخدامها في إحياء مسار حل الدولتين، ومن اهمها أنه:
1- يمسك الغرب على “الخناق” من خلال النفوذ الذي تحتله المملكة في “اوبك بلاس”، إذ لا يمكن الحفاظ على امن الطاقة العالمي واستقرار اسعار النفط من دون التعاون معها.
2- يمسك بمفتاح النفاذ في مشروع الممر الهندي الاوروبي، الذي يحتاج الى الجغرافيا والاستثمارات السعودية كي يأخذ طريقه الى النجاح.
3- يمسك بمفتاح المشاريع الاقتصادية الملحقة باتفاقات ابراهام. الجغرافيا السعودية هي الممر الاجباري لمشاريع ربط الخليج بالموانىء الاسرائيلية كافة.
4- للمملكة تأثير كبير في العالم الاسلامي. فلا يمكن لأي تطبيع ان يأخذ شرعيته ويسوَّق في العالم الاسلامي إذا لم يحظَ بغطاء المملكة وموافقتها. كما لا يمكن لأي مشروع لادارة قطاع غزة بعد الحرب واعماره أن يرى النور إلاّ بموافقة المملكة ودعمها المادي والسياسي.
5- التنوع الذي وصلت اليه المملكة في علاقاتها الدولية جعلها قادرة على التحدث مع مختلف القوى والتكتلات السياسية والاقتصادية وتسويق وجهة نظرها في القضايا العربية والاقليمية.
لا يمكن التقليل من أهمية معارضة إيران لهذا الخيار وقدرتها على تعطيله، ومن استمرار تغطية الولايات المتحدة الأميركية بشقيها الديمقراطي والجمهوري للسياسات الإسرائيلية التي قوضت مسار التسوية السياسية على أساس القرارات الدولية ذات الصلة
أوراق مصر وتأثيرها الجيوسياسيّ
تمتلك مصر موقعاً جيوستراتيجياً قادراً على التأثير الكبير في محيطها. ولدى قيادة مصر خبرة كبيرة في التعاطي مع الأهداف الإسرائيلية التي تسعى إلى اضعاف الأمن القومي المصري، وكذلك خبرة في نقاط الضعف الإسرائيلية الأمنية والسياسية والعسكرية.
في هذا الإطار، تمتلك مصر العديد من الاوراق التي تتكامل مع اوراق المملكة:
1- اثبتت التطورات أن الحروب التي ساقتها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ انسحابها عام 2005، كانت دائماً بحاجة إلى مصر من اجل ترتيبات وقف اطلاق النار وغيرها التي تضمن الهدوء على محاور غزة. كما احتاجت إسرائيل دائماً إلى الدور المصري في كل ما يتصل بالمواجهات في الضفة الغربية وفي العلاقة مع السلطة الفلسطينية.
2- تحتفظ مصر بورقة التطبيع الكامل الذي لم يحصل كما ترغب إسرائيل منذ توقيع اتفاقية السلام بين البلدين.
3- لمصر تأثير جيوسياسي كبير على قطاع غزة وجغرافيته السياسية، وعلى مستقبل القطاع بعد الحرب، إذ لا يسلك اي حل سياسي أو أي نظام امني للقطاع طريقه من دون شراكة مصر ودعمها.
4- لمصر تأثير كبير على اهداف الحرب التي يشنها نتانياهو وجنرالاته، فتمسّك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وخلفه مجلس الأمن القومي بعدم السماح لتهجير فلسطينيّي القطاع وتوطينهم في سيناء يعدّ من اهم الاوراق التي تحمي الامن القومي المصري ويحبط مخططات نتانياهو في تصدير المشكلة الى مصر.
في حرب اكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، سار الرئيس المصري أنور السادات والرئيس السوري حافظ الأسد إلى المعركة باستراتيجيتين مختلفتين:
– الأول أراد تحرير ما يتيسر له من سيناء والجلوس الى طاولة المفاوضات لعقد اتفاق سلام يمكّنه من استعادة الاراضي المصرية المحتلة.
– والثاني أراد من الحرب امتلاك شرعية تمكّنه من الاستحواذ على الورقة الفلسطينية وجعل الاردن ولبنان في جيبه.
أما اليوم فالمملكة ومصر حليفتان استراتيجيتان، ولديهما رؤية مشتركة لحل المسألة الفلسطينية. وتمتلك الدولتان الموارد الكافية السياسية والدبلوماسية، وكذلك الأوراق ذات الطابع الجيوسياسي لاستعادة المبادرة وتوفير شروط وضع حل الدولتين على طاولة المفاوضات، وإحياء مبادرة “الأرض مقابل السلام”.
لكن لا يمكن التقليل من أهمية معارضة إيران لهذا الخيار وقدرتها على تعطيله، ومن استمرار تغطية الولايات المتحدة الأميركية بشقيها الديمقراطي والجمهوري للسياسات الإسرائيلية التي قوضت مسار التسوية السياسية على أساس القرارات الدولية ذات الصلة. كما لا يمكن التقليل من التحديات الاسرائيلية امام هذا المسار قبل وبعد عملية “طوفان الاقصى”. إذ يبدو أن صناع القرار من مختلف الاتجاهات في إسرائيل ليسوا بوارد الاستفادة من هذا الحدث الكبير لتغيير افتراضاتهم العقيمة والقائمة على الرهان الدائم على قوة الردع وتغليب الحلول الأمنية والعسكرية على الحل السياسي وإضعاف السلطة الفلسطينية.
في هذا المجال، أقتبس ما قاله اوري كوفمان في مقالته في “فورين افيرز” بتاريخ 20 تشرين الأول بعنوان “الدروس الحقيقية لحرب يوم الغفران”: “تشير قصة حرب يوم الغفران إلى أنه عندما يتم قلب العديد من الافتراضات القديمة، يمكن تغيير الافتراضات الضارة، مثل الافتراض أنه لا يمكن أن يكون هناك حلّ للدولتين، أو أيضاً أنّه لا حكم فعّالاً في الأراضي الفلسطينية”.