أن تعرض صحيفة نيويورك تايمز الأميركية صوراً لأطفال غزة تحت عنوان أنّ غزة تحوّلت إلى مقبرة للأطفال ليس تفصيلاً في معركة تعتبرها إسرائيل معركة وجودية. فالصحيفة الأميركية معروفة الهويّة اليهودية وتُعتبر منشوراتها معبّرة عن المزاج العامّ الذي بدأ فعلاً يتغيّر عالمياً بعدما مضى على حرب بنيامين نتانياهو على غزّة أكثر من أربعين يوماً. صور أطفال غزة على صفحات نيويورك تايمز ليست سوى انعكاس لموقف الإدارة الأميركية التي بدأت تشتكي من غياب التخطيط لحرب نتانياهو وضبابية خاتمتها.
واشنطن التي تشهد أكبر تظاهرات الدعم لقضية فلسطين، مثلها مثل شوارع أوروبا، لم تنجح بعد في دفع الأميركيين إلى رفع البطاقة الحمراء بوجه رئيس حكومة إسرائيل، بل للدقّة أضاءت واشنطن الضوء البرتقالي الممهّد للأحمر لوقف الحرب في غزة.
تزامناً ما زالت مفاوضات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار متأرجحة بشروط نتانياهو وحماس. نتانياهو الذي يخوض معركة إنقاذ حياته السياسية وحماس التي تخوض معركة ضدّ تصفيتها، ومن خلفهما يبدو العالم عالقاً في عنق الزجاجة.
أن تعرض صحيفة نيويورك تايمز الأميركية صوراً لأطفال غزة وتُعنون أنّ غزة تحوّلت إلى مقبرة للأطفال ليس تفصيلاً في معركة تعتبرها إسرائيل معركة وجودية
مفاوضات تحت النار
وعلى الرغم من وجود تفاؤل أميركي قطري يتحدث عن نجاح في الوصول إلى اتفاق لتبادل الأسرى، إلا أنّ إسرائيل وحماس خاضتا هذه المفاوضات وهما مكبّلتان بسلسلة شروط تراعي حسابات كلّ منهما. وبالتالي فإنّ نجاح الجهود القطرية – الأميركية بالوصول الى عملية تبادل للأسرى في الساعات أو الأيام المقبلة، كما يريدها الاميركيون أولاً، وكما أعلن البيت الأبيض اليوم، فإنّ هذا سيحدّد المسار الذي ستسلكه عملية التفاوض والهدن الإنسانية أو وقف إطلاق النار وما بعدها، في المرحلة المقبلة وفق اجندة وشروط كل من حماس وإسرائيل.
– حماس تبحث عن عمليات تبادل صغيرة متتالية لا عن عملية تبادل كبرى كي تستطيع أن تكتسب أكبر قدر من الهدن العسكرية لأنّ ذلك يريحها على الأرض.
– إسرائيل تبحث عن عملية تبادل كبرى لتقفل الملفّ بأسرع وقت ممكن لعدم إعطاء حماس القدرة على التقاط أنفاسها عبر هدن متتالية سترافق عمليات تبادل الاسرى. على أنّ إسرائيل لن ترضى هذه المرّة بوقف إطلاق النار، بل بهدن إنسانية متقطّعة لتبقي باب معاركها على حماس مفتوحاً وتبقي معها مفتاح الهجوم أو الهدنة.
– عام 2014 بعد إعلان الهدنة الإنسانية في حرب إسرائيل على غزّة وحماس، تحوّلت الهدنة إلى وقف لإطلاق النار أدّى إلى انتهاء الحرب. هذا العام سيكون الوضع مختلفاً لأنّ الحرب لن تقفل بقرار الهدنة.
– بينما تسعى حماس إلى الوصول إلى هدنة سريعاً، تستفيد إسرائيل من كلّ الوقت المعطى لها دولياً للإبادة في غزة بحجّة شلّ قدرة حماس على إطلاق صواريخ والقيام بعمليات عسكرية بعد اجتياح القوات الإسرائيلية شمال القطاع.
– تعرقلت المفاوضات عند أعداد الأسرى المفترض الإفراج عنهم، وحول كميّات الوقود التي ستسمح إسرائيل بإدخالها إلى القطاع.
سقطت المحاولات الأوروبية التي عملت على تقديم مشروع قرار بانتظار ما ستحمل الأيام المقبلة من تطوّرات ميدانياً وسياسياً في الدوحة
غانتس يريد تفاوضاً سريعاً
يأتي كلّ ذلك وسط صراع بدأ يتمظهر في إسرائيل بوضوح بين معسكرين، معسكر نتانياهو الذي يريد التفاوض على وقف إطلاق النار، وبين معسكر بيني غايتس الذي يُظهر قدراً أكبر من العقلانية بمطالبته الحصول على المستطاع وإنقاذ الأسرى.
على المقلب الآخر حديث في واشنطن عن استياء أميركي كبير من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لعدم قدرته على حسم المعركة وإنهاء الصراع. في الخلاصة السياسية، تدفع الولايات المتحدة الأميركية باتجاه أن تكون هذه الحرب مقدّمة لحلّ شامل على قاعدة حلّ الدولتين بينما يرفض نتانياهو ذلك.
في الميدان عبّرت واشنطن عن عدم قناعتها بوجوب احتلال غزة بينما يريد نتانياهو استكمال غزوها مهما كان الثمن. لهذا تدفع واشنطن باتجاه إنجاح المفاوضات وإنهاء الحرب بينما يصرّ نتانياهو على استكمال الأعمال العسكرية لإنقاذ نفسه من المحاسبة اللاحقة. كلّ هذه الاختلافات جعلت من واشنطن، الحليفة الثابتة والدائمة لإسرائيل، تبدأ بالتعبير عن قلقها من مستقبل الحرب وعدم اطمئنانها لمسارها.
تشير مصادر دبلوماسية لـ”أساس” إلى أنّ أميركا أعطت وقتاً لنتانياهو ليحاول تعويض الخسارة الكبيرة التي مُني بها بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول)، لكنّ هذا الوقت بدأ يضيق فعلاً مع تزايد حجم الضغط العالمي المُطالب بإنهاء الصراع، وتتحدّث هذه المصادر عن أنّ المهلة قد تطول في حدّ أقصى حتى نهاية الشهر الجاري.
مجلس الأمن معلّق حتى إشعار آخر
في هذه الأثناء سقطت محاولات دول أوروبية عدّة طرح مشروع قرار في مجلس الأمن لهدنة طويلة تسمح بإجراء مفاوضات تبادل الأسرى، وذلك بعد معارضة روسية وأميركية.
المعارضة الروسية انطلقت وفق معلومات في كواليس مجلس الأمن من رغبة موسكو بإقرار وقف إطلاق نار والبحث في مفاوضات من أجل الأسرى وقيام دولة فلسطينية. أمّا المعارضة الأميركية فانطلقت من رغبة واشنطن بإعطاء المزيد من الوقت لإسرائيل في محاولتها القضاء على حماس، سيما أنّ أميركا تعوّل أوّلاً على المفاوضات التي ترعاها الدوحة حول إطلاق الأسرى الأميركيين في أول عملية تبادل يفترض أن تحصل في الأيام المقبلة. وبالتالي تفضّل الولايات المتحدة أن لا يؤدّي أيّ مشروع قرار في مجلس الأمن إلى التشويش على المفاوضات الحالية.
في موازاة ذلك يبدو أنّ أحد العوائق أمام صدور أيّ قرار حول غزّة متعلّق ببند “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وفي هذا البند إشكالية كبيرة نظراً إلى أنّه يستند إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنصّ على حقّ الدول بالدفاع عن نفسها. وفي حال إقراره يعطي إسرائيل صكّ براءة عن كلّ الجرائم التي ارتكبتها، وبالتالي يتعذّر التوافق على أيّ قرار يتضمّن هذا البند، خصوصاً من ناحية الصين وروسيا وحتى الدول الأوروبية وأميركا التي يرزح رئيسها تحت ضغوط انتخاباته الرئاسية القريبة.
إذاً سقطت المحاولات الأوروبية التي عملت على تقديم مشروع قرار بانتظار ما ستحمل الأيام المقبلة من تطوّرات ميدانياً وسياسياً في الدوحة. بالتوازي، تشير المعلومات إلى أنّ الإمارات تبحث في إمكانية العمل على مشروع قرار خاص بالمستشفيات والمدارس والمصابين لتخفيف المعاناة، إلا أنّه لا شيء ناضجاً بعد في مجلس الأمن بانتظار الكلمة الأميركية الفصل التي لن تستطيع أن تتأخّر طويلاً.