خرج الرئيس السابق ميشال عون علانية على كلّ تبريرات الأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله بشأن فتح جبهة الجنوب عندما أعلن «أننا لسنا مرتبطين بمعاهدة دفاع مع غزة» وأنّ «الرادع لكل اعتداء لا يناط بميليشيا تخطف دور الدولة، بل هو من مسؤولية مؤسسات شرعية تعمل بحسب الدستور والقوانين»، ليكتمل بهذا الموقف قوس الأزمة التي يفتعلها النائب جبران باسيل مع «الحزب» ويفتح باب النقاش حول جدية دفن تفاهم مار مخايل والمدى الذي بلغه الشقاق بين الطرفين، وهل هناك إمكانيّة لتغيير الخريطة السياسية في ضوء هذا المتغيّر؟ وهل يستطيع باسيل التحرّر من التزاماته ومصالحه مع «الحزب»؟ وهل ينبغي على المعارضة استيعاب «التيار الوطني الحرّ» في هذه المرحلة وعدم تكرار ما حصل عشية عودة عون إلى البلد؟
وجهتا نظر
ينقسم الرأي حول وضعية «التيار» في هذه اللحظة السياسية إلى قسمين:
ـ الأول: يعتبر أنّ ما يجري مناورة من عون وباسيل لاستعادة ما خسراه في الشارع المسيحي طيلة فترة تفاهم مار مخايل وبشكل خاص خلال رئاسة عون، وأنّ «حزب الله» نسّق مع باسيل هذه المناورة لإعادة التوازن للحالة العونية الباسيلية لأنّه يريد شريكاً مسيحيّاً قويّاً، واليوم ليس زمن انتخابات فالوقت يسمح بالتباينات وبالهامش الواسع للحركة، وهناك احتمال في أن يستعمل باسيل لعبة الابتزاز بين المعارضة و»حزب الله» ليقوّي موقعه في المعادلة السياسية.
هناك نظرية تقول إنّ باسيل غيرُ قادر على أن يتحرّر من التزاماته ومنافعه وهذا الطرح مشروع ولكنّه مرتبط أيضاً بما يستطيع أن يقدّمه له «الحزب» فعلياً، خاصة مع اتّضاح علامات الضعف على «الحزب» بسبب الأوضاع العسكرية والسياسية القائمة، وقد بدأت علامات التباين والتمايز داخل صفوف حلفاء «الحزب» ونموذج وئام وهاب حاضر، كما أنّ مجمل حلفاء «الحزب» يراهنون عليه قوياً أما عندما يضعف فسيبحثون عن مصالحهم، وإن كان هناك رأي يعتبر أنّ «حزب الله» لا يغيّر تحالفاته وهو ثابتٌ عليها. يَعتبر هؤلاء أنّ باسيل ما زال في رعاية «الحزب» مستدلّين على ذلك بالدعم المطلق الذي منحته قيادته لمرشح «التيار الوطني الحرّ» في انتخابات نقابة المهندسين المرتقبة.
– الثاني: يطرحه بعض الضالعين في السياسة ويقوم على أساس ضرورة استيعاب «التيار الوطني الحرّ» في تحوّلاته الحالية مسترجعين تاريخه وخطابه في مواجهة النظام السوري و»حزب الله» قبل العودة، وأنّ اللحظة السياسية الآن مواتية لاستكمال نزع الغطاء المسيحي عن «الحزب» وإحداث تغيير في المعادلات القائمة للوصول إلى توازن يسمح باستعادة الأنفاس لصالح مشروع الدولة، خاصة أنّ الحزب لا يستطيع، لاعتبارات ميدانية وسياسية، أن يقلب سلاحه إلى الداخل كما حصل في 7 أيار 2008 وبالتالي يمكن البناء على مشتركات وطنية وسياسية لدى «التيار» كما حصل في التقاطع الرئاسي على اسم الوزير الأسبق جهاد أزعور. يضيف أصحاب هذا الرأي أنّ مشاركة النائبة ندى البستاني في الوفد/ المبادرة التي نظّمها النائب فؤاد مخزومي وموافقتها، وقيادة «التيار»، على السقف السياسي العالي الذي ساد في خطاب الوفد النيابي اللبناني في لندن هو مؤشِّرٌ مهمّ على جدّية هذا المسار الذي يسلكه «التيار» وعزّزه موقف الرئيس عون ممّا يحصل في الجنوب. كما أنّ باسيل حاول قبل الزيارة الملغاة إلى طرابلس التواصل مع الرئيس نجيب ميقاتي للقائه ومع النائب أشرف ريفي لزيارته لكنّها كانت محاولة فاشلة لأنّه استخدم أسلوب تجاهل المشاكل الكبيرة مع الرجلين ولم يمهِّد لتلك الخطوة بأي مواقف تعبّر عن التغيير في مواقفه وسلوكه تجاه طرابلس ونحو ميقاتي وريفي بالذات، ولو أنّه أحدث هذا التغيير لربما كان الوضع قد اختلف.
يستند أصحاب الدعوة لاحتواء «التيار الوطني» إلى اعتبار أنّ السياسة عبارة عن متغيِّراتٍ تفرض نفسها على الأحزاب والقوى السياسية، وأنّ الامتعاض الداخلي في «التيار» من التحالف مع «حزب الله» عمره ما لا يقلّ عن عامين وهو ما يدركه «الحزب» وظهر أكثر من مرة في خطاب أمينه العام عندما توجّه مباشرة إلى قيادات التيار وجمهوره عند المفاصل الخلافية الحساسة وبعد احتدام الحروب الإلكترونية بين جمهوري الطرفين وعزّزه في الساعات الأخيرة الوزير السابق بيار رفول الذي أعلن الطلاق رسمياً مع الحزب.
أربعة عوامل إضافية
يقف المراقبون عند أربعة عوامل إضافيّة في تقييم الموقف:
ـ الأول: أنّه مهما جرى التقليل من شأن باسيل فإنّه إذا عاد واتفق الآن مع «حزب الله» فإنّه يُحدِث أزمة في التوازنات السياسية الحالية الهشّة، خاصة أنّ لديه كتلة نيابية وازنة ومؤثِّرة.
ـ الثاني: أنّ الشخصية الاستثنائية لميشال عون انتهت (سياسياً) وانتهى معه الشخص الذي يستطيع أن يأخذ المسيحيين إلى خيار «حزب الله» كما حصل في لحظة توقيع وثيقة التفاهم مع «الحزب» لأنّه بعد التجربة الرئاسية التي يتّهم نواب «التيار البرتقالي» الثنائي الشيعي بإفشالها، وخروج الرجل من الحياة السياسية، لم يعد قادراً على التأثير لا في الجمهور المسيحي الواسع ولا في القرار، لا سيّما مع التقدّم العميق الذي تحرزه «القوات اللبنانية» في الشارع المسيحي مع احتفاظها بخطابٍ وطني متوازن. ويدرك باسيل أنّه غير قادر على الاستمرار في التحالف مع «الحزب» لكلّ هذه الاعتبارات.
ـ العامل الثالث: إنّ «حزب الله» يتعرّض لعوامل ضعف كثيرة، وخاصة في ظل الاستنزاف العسكري الحاصل في الجنوب وعجزه عن فرض قراراته بالقوة، وهذا تعزّز بعد المصالحة السعودية الإيرانية ومع التحوّلات التي تشهدها المنطقة في ظلّ العدوان الإسرائيلي على غزة.
ـ العامل الرابع: هو ما بدأ بالانكشاف عن حقيقة التغييرات التي يُقال إنّ «حزب الله» يريدها في تركيبة الدولة، وأهمّها إلغاء قيادة الجيش واستبدالها بهيئة أركان يتحكّم بها عملياً وتشريع وجوده بتأسيس «وحدة الصواريخ» في الجيش بإدارة «الحزب» وتنتشر على الحدود، فهل يقبل «التيار الحرّ» إزالة قيادة الجيش بعد أن بدأ التطبيع في حاكمية مصرف لبنان بإزاحة المسيحيين عن رئاستها؟ وهل يستطيع «التيار» التأقلم مع مشروعٍ يتجاوز المثالثة مهما بلغت إغراءات الاستمرار في تغطيته سياسياً؟
لطالما كان ميشال عون حالة جدلية وبات باسيل أكثر جدلية واستفزازاً، لكن، ثمّة حلّ وسط توجِبُه الضروراتُ السياسية وهو ما يحصل حتى اليوم، أي الاستمرار في التقاطع على الجوامع المشتركة. لكنّ الانفتاح الذي أبداه النائب فؤاد مخزومي عبر مشاركة النائب البستاني وعبّر عنه النائب إيهاب مطر يمكن أن يؤدّي إلى حواراتٍ أكثر عمقاً تستفيد من تجارب تفاهم مار مخايل والصفقة الرئاسية للرئيس سعد الحريري واتفاق معراب لتبني رؤيةً واقعية تؤسِّس لاستدراج «حزب الله» إلى تفاهم مختلف جديد يقوم على أساس حقّ الجميع في الوجود داخل الدولة وحقّ الدولة في الوجود والفعل.