على وقع مناورات “اللكمة القاضية” التي أجرتها إسرائيل أخيراً، وتحاكي حرباً ضدّ إيران في مختلف الساحات، والصخب الإعلامي الإسرائيلي حول تحرّك إسرائيلي عسكري وشيك ضدّ المشروع النووي الإيراني، كانت تدور بهدوء خلف الكواليس محادثات غير مباشرة بين إيران وواشنطن، تهدف إلى التوصّل إلى تفاهمات أو اتفاق مرحليّ حول المشروع النووي أساسه تجميد الوضع القائم للمشروع، وامتناع إيران عن الانطلاق نحو الحصول على قدرة نووية، على الرغم من وجود قناعة واضحة بأنّ إيران أصبحت دولة عتبة نووية وأنّ كلّ ما يلزمها لإنتاج سلاح نووي هو قرار سياسي من قادتها.
يعزّز ذلك قولُ المرشد الأعلى علي خامنئي قبل أيام إنّه لا ضرر من القيام بتوقيع اتفاق نووي لا يتضمّن تفكيك المنشآت النووية الإيرانية أو المساس بها، وإعلان وزارة الخارجية الأميركية موافقتها “على السماح لإيران بالوصول إلى أموال تابعة لها مودعة في حسابات بالخارج ومنها بالعراق، وتقدّر بالمليارات، لإجراء معاملات إنسانية وغير خاضعة للعقوبات”.
متابعة إسرائيلية قلقة
في خضمّ ذلك، تتابع إسرائيل بقلق بالغ هذه المؤشّرات والتسريبات حول تقدّم واضح بين الولايات المتحدة وإيران في المحادثات غير المباشرة حول الملف النووي، وتخشى تل أبيب من أنّ رافعة الضغط التي استخدمتها في 2015 للتأثير على التفاهمات الآخذة في التبلور بين واشنطن وطهران في موضوع المشروع النووي الإيراني لم تعُد ذات تأثير في الاتصالات الجارية بينهما في هذه الأيام، بسبب ضعف قوّة التأثير الإسرائيلية على إدارة جو بايدن الذي يرفض استقبال بنيامين نتانياهو في البيت الأبيض على خلفيّة الانقلاب القضائي الذي يقوده.
هاجم رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد بشدّة نتانياهو بسبب إيلائه الاهتمام الجارف بخطة الإصلاح القضائي في إسرائيل على حساب التوافق والتنسيق بين تل أبيب والإدارة الأميركية بشأن الملفّ النووي الإيراني.
بالنسبة للساحة الأوروبية، يرى المستوى السياسي في تل أبيب أنّه لا يمكن دفع فرنسا وبريطانيا إلى تصلّب كبير، في إطار المحادثات حول المشروع مع طهران
وطالب لابيد، في تغريدة له، نتانياهو بإلغاء خطة الإصلاح القضائية والطيران الفوري إلى واشنطن لمحاولة وأد أيّ اتفاق يجمع الإدارة الأميركية والنظام الإيراني.
يعارض نتانياهو ووزير جيشه يوآف غالنت بشكل قاطع اتفاقاً مرحليّاً من هذا النوع، وتشير تقديرات إلى أنّه في إطار مثل هذا الاتفاق، إذا ما تمّ التوصّل إليه، فإنّ من المتوقّع أن تجمّد إيران تخصيب اليورانيوم عند مستويات عليا، وستحظى بمقابل فوري يتمثّل في تحرير أموال وممتلكات لها مجمّدة في الخارج تزيد على 20 مليار دولار.
في نقاشات إسرائيلية داخلية في هذا الشأن برزت خشية من أن يكون من الصعب جداً على إسرائيل عرقلة مثل هذه التفاهمات، وتجنيد معارضة حقيقية في الكونغرس لأيّ اتفاق مع إيران كما في عام 2015 أثناء ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما، حين حاولت إسرائيل العمل بعدّة طرق من أجل وضع عراقيل أمام التوصّل إلى اتفاق أو تغيير مضمونه.
التقدير السائد في تل أبيب أنّ وضع إسرائيل في الكونغرس ساء في السنوات الأخيرة. فمجلس الشيوخ الأميركي تحت سيطرة الحزب الديمقراطي، في حين أنّ الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب هي أغلبية ضئيلة. هكذا ستكون محاولة إثارة معارضة كبيرة في الكابيتول هيل أصعب على إسرائيل من المرّات السابقة.
في موازاة ذلك، ازدادت قوّة الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الأميركي الذي تبنّى في السنوات الأخيرة مقاربة أكثر نقدية تجاه إسرائيل، وهذا وضع يمكن أن تزداد حدّته إذا حدثت مواجهة مباشرة بين نتانياهو وبايدن حول الموضوع الإيراني.
الخشية الأوروبية من المواجهة العسكرية
بالنسبة للساحة الأوروبية، يرى المستوى السياسي في تل أبيب أنّه لا يمكن دفع فرنسا وبريطانيا إلى تصلّب كبير، في إطار المحادثات حول المشروع مع طهران، لأنّه يوجد ببساطة فرق بين التماهي مع خشية إسرائيل من إيران النووية وبين تحطيم موقف الغرب المشترك مع الولايات المتحدة. وتخشى أوروبا من أن يؤدّي التدهور إلى مواجهة عسكرية مع إيران ستجبر واشنطن على خفض الموارد المخصّصة لدعم أوكرانيا، وهذا كابوس لا يمكن أن تتخيّله أوروبا في ذروة صدامها مع موسكو. فالحرب مع إيران الآن قد لا تترك فرصة للولايات المتحدة للمساهمة الفاعلة في استنزاف روسيا، خصوصاً أنّ هذه الحرب إن حدثت ستمتدّ لتشمل منطقة الشرق الأوسط. وتتوقّع تل أبيب أن يكون لبعض الدول الأوروبية مصلحة في أيّ تفاهم مع طهران، إذ سيسمح للشركات الأوروبية بأن تستثمر بمليارات الدولارات في الأسواق الإيرانية عند توقيع أيّ تفاهم جديد مع إيران.
تل أبيب تحاول فرملة اندفاعة واشنطن في اتجاه التفاهم مع طهران في اللحظات الأخيرة
الأهمّ من ذلك أنّ تل أبيب فقدت إحدى أنجع وسائل الضغط لعرقلة الاتفاق النووي التي استخدمتها في عام 2015، وهي دول الخليج. فالرياح الإقليمية الجديدة التي تهبّ على المنطقة، وأجواء المصالحات مع طهران، بما في ذلك افتتاح سفارة جديدة للسعودية في طهران، ستقف عائقاً دون ذلك.
في الوقت نفسه تتابع واشنطن انسحابها من منطقة الشرق الأوسط، فيما تتحوّل إسرائيل إلى دولة هامشية، ويتكشّف ضعفها أكثر من أيّ وقت مضى. هذا ولم تعد دول مركزية في الخليج تقبل القصة التي ترويها إسرائيل لنفسها وتدّعي فيها أنّه يمكن بناء جبهة مضادّة لإيران، بدون إعطاء أيّ شيء، وخصوصاً في عملية السلام مع الفلسطينيين، أو في إجبار واشنطن على الدفاع عن أمن الخليج.
غير أنّ تل أبيب تحاول فرملة اندفاعة واشنطن في اتجاه التفاهم مع طهران في اللحظات الأخيرة. وفي هذا الإطار، تحدّث مستشار الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر ورئيس هيئة الأمن القومي تساحي هنغبي مع كبار الإدارة الأميركية في شأن الملفّ الإيراني، وكانت الرسالة التي بعث بها البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية أنّه لا توجد تفاهمات جديدة على الأجندة في الوقت الراهن، وأنّ التوصّل إليها يحتاج إلى وقت أطول، لكن في إسرائيل من يقدّرون أنّ هذه التفاهمات يمكن أن تحدث قريباً.
لكن لماذا تحتاج واشنطن إلى الاتفاق؟ يرى المحلّل الفلسطيني أكرم عطا الله أنّ عاملَين ملحَّين يضغطان على القرار الأميركي منذ فترة طويلة، أوّلهما الضغط الإسرائيلي المكثّف من خلال التهديد بالحرب وبإشعال حريق هائل تصل نيرانه لكلّ العواصم، إذا تجاوزت طهران الخطوط الحمر لتخصيب اليورانيوم، ولذلك ما تريده واشنطن أوّلاً هو أيّ اتفاق أو تفاهم يوقف تخصيب اليورانيوم. ويتمثّل العامل الثاني في الحاجة الشديدة إلى إيجاد كميّات أكبر من النفط تؤدّي إلى خفض سعره وتكبيد روسيا الخسائر بسبب أنّ ارتفاع الأسعار يساهم في دعم مجهودها الحربي في أوكرانيا.