كيف سيكون الرد في جنوب لبنان بعد مجزرة النبطية؟ وفي غزة أي توقعات لموقعة رفح. أما في الإقليم فغليان من اليمن إلى العراق وسوريا. لكن ما الذي يربط سفينة تجسس إيران في البحر الأحمر، بزيارة سعد الحريري بيروت؟ وماذا بين الاثنين وحسابات طهران وواشنطن؟ مسألة نستعرض حيثياتها.
كلّ ما يحصل في الشرق الأوسط حالياً، من مآسي غزّة، إلى اختفاء سفينة التجسّس الإيرانية من مياه البحر الأحمر…
ومن زيارة سعد الحريري بيروت، إلى خفايا وأسرار ما يدور في دمشق قبل استقبالها وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان وبعده…
هو نتاج سؤال واحد: هل صار الاتفاق الأميركي الإيراني منجزاً، وبالتالي فما يحصل هو تمهيد لمقتضياته في كلّ الملفّات؟
أم تنجح أميركا في إنجاز تسوية عربية إسرائيلية، بشراكة خليجية وسعودية أساساً، عنوانها مسار دولة فلسطين، برؤية تنموية اقتصادية شاملة؟
باختصار، مع من ستتّفق واشنطن، مع طهران أم مع الرياض؟ هذا هو صميم اللعبة راهناً. وهذا ما يفسّر الكثير من ألغاز التطوّرات والتباساتها.
أميركيّاً هناك معيار واحد لقياس سياسة واشنطن حالياً: ما الذي يساعد على رفع حظوظ الرئيس الأميركي جو بايدن في حملته الانتخابية لولاية ثانية؟
خلال هذه الفترة وحتى انتخابات تشرين الأميركية، المطلوب من طهران مشاركة واشنطن في رقصة التانغو الانتخابية المطلوبة لبايدن: أي قبول الملالي بضرباتٍ محدودة ومضبوطة، لإعطاء المرشّح الثمانينيّ صورة الكاوبوي القويّ
هي القاعدة الثابتة والدائمة هناك: فكلّ السياسات في المثلّث الفدرالي كما يسمّيه الأميركيون، بين البيت الأبيض، وتلّة الكابيتول مقرّ الكونغرس، و”فوغي بوتوم” منطقة وزارة الخارجية، هي سياسات محلّية داخلية أو حتى بلديّة. كلّ الخارج، وكلّ العالم، وكلّ أوضاع الأرض، يقاربها سياسيّو واشنطن من هذه الزاوية حصراً.
الهاجس “البلدي” في واشنطن اليوم هو كيف يفوز بايدن بولاية رئاسية ثانية؟ باتفاق مع إيران، يضمن استقراراً أمنيّاً في الشرق الأوسط؟ أم بتسوية مع العرب على حلّ الدولتين ونهضة تنموية ورؤية استثمارية، أوّلها استئناف الممرّ الهندي الأوروبي؟
اللافت أنّ جميع الأطراف يتصرّفون وفق هذه المعادلة.
إيران وكيلة “الشيطان الأكبر”.. والجائزة الكبرى
إيران من جهتها تحضّر نفسها للتأهّل لدور وكيلة “الشيطان الأكبر” سابقاً، الإقليمية والحصريّة. في منطقة تريدها سابحة من مياه قزوين حتى البحر الأحمر. ومن المحيط الهندي حتى المتوسط. وأبعد منها إذا ما استطاعت.
حتى قيل إنّها أبلغت وكلاءها في كلّ المنطقة، بأن “احبسوا أنفاسكم. واضبطوا كلّ فكرة وكلمة وخطوة، وفق إيقاع طهران وتعليماتها”.
المشهد الإيراني، بحسب دبلوماسي عربي في بيروت، أشبه بلاعب كازينو راكم أرباحاً معقولة. لكنّه الآن على أهبة اللعب على “الجائزة الكبرى”. فهو يتردّد أحياناً بين الاكتفاء بما كسبه وضبّ “الفيش” والقيام عن طاولة اللعب. وبين وضع كلّ شيء عليها والمقامرة للفوز بكلّ شيء.
في غزة حدود التكتيك الإيراني هو مشاركة حماس علناً إذا ربحت. وتعزيتها سرّاً إذا خسرت.
في اليمن أنهى الإيرانيون لعبة التحرّش البحريّ. و”ضبّوا” باخرة تجسّسهم “بهشاد” في جيبوتي، بتعاون صيني. فما لبث أن توقّف وحي المعلومات الملاحيّة للصواريخ الحوثية.
في العراق، أبلغوا فصائلهم بتجميد عمليّاتهم، وحتى مغادرة بعضهم البلاد باستدعائهم إلى إيران.
في لبنان أُبلغ الحزب بوجوب السير على ذلك الخطّ الدقيق المشدود: ضرورة الاستمرار في الردّ على تحرّشات رئيس حكومة الحرب بنيامين نتنياهو، لعدم سقوط ورقة الاستثمار في حرب غزة. لكن من دون الانزلاق إلى استدراجات ذاك المجنون نحو حرب شاملة. كيلا يحترق رصيد الاستثمار نفسه.
كلّ الملفّات تبدو منضبطة وفق الخطّة المطلوبة. وحدها سوريا تبدو ساحةً للبلبلة ومحاولات لاجتهادات خاصة… وهي ما تقتضي بحثاً منفصلاً.
“صفقة القرن”… مع طهران
باختصار هي صفقة القرن من منظور طهران. ففي واشنطن كلام عن رسالة أميركية نُقلت إلى نظام الملالي، عن خطة لانسحاب القوات الأميركية من العراق وسوريا خلال 90 يوماً. انسحابٌ يكرّس سيطرة هذا النظام على “الكوريدور” الاستراتيجي المطلوب. أو “الهلال” الشهير. مع إعطاء سرديّته كلّ الفرصة للكلام عن “انتصار إلهي” والثأر لسليماني.
المهمّ أنّه خلال هذه الفترة وحتى انتخابات تشرين الأميركية، المطلوب من طهران مشاركة واشنطن في رقصة التانغو الانتخابية المطلوبة لبايدن: أي قبول الملالي بضرباتٍ محدودة ومضبوطة، لإعطاء المرشّح الثمانينيّ صورة الكاوبوي القويّ. لكن من دون حرب ولا مستنقعات استنزاف. والأهمّ لا جنود يعودون إلى وطن العمّ سام في صناديق الموت. لأنّها الصورة القاتلة للأصوات في صناديق الاقتراع.
يُحكى أنّ طهران مطمئنّة جداً إلى هذا السياق. وهي بدأت تُعدّ عناصر المشهد الجديد كافّة:
أجرت تغييرات أمنيّة كاملة في بغداد. فيما سفيرها في دمشق بات يتصرّف تماماً كما كان “غازي عنجر” (كنعان) يتصرّف في بيروت. حتى إنّه في كلام صحافي قبل أسبوع، استعار أدبيّات تلك المرحلة السورية في لبنان، فكاد يقول عن الوجود الإيراني في سوريا، بأنّه “ضروري وشرعي… وغير مؤقّت”. مؤكّداً صراحة أنّه إلى الأبد!
أمّا في بيروت، فبدا إعلام الحزب محتفياً بزيارة سعد الحريري أكثر ممّن يُفترضون أنّهم حلفاؤه. على خلفيّة العلاقة الإشكالية المفترضة بينه وبين الرياض. حتى استقبالات الرجل كادت توحي باصطفاف رئاسي مع الحزب.
وقد قيل إنّ البعض تنبّه لاحقاً إلى سلبيّاته وضرره. فجاءت إطلالة لرئيس الحكومة السابق على شاشة تلفزيونية سعودية. بهدف تصحيح الانطباع وإعادة التأكيد على ربط النزاع مع الحزب.
فجاء الجواب بأن لا مانع. لكن ضمن العموميّات. ومع بقاء الكلام على شاشة “الحدث” الثانوية، لا على قناة “العربية” الرئيسية.
هل هذه هي الصورة الحقيقة لما يجري وسيتمّ في كلّ المنطقة؟
مسؤولون سياسيون آخرون، يملكون قراءة مغايرة. بالتفاصيل والأدلّة والوقائع. وهي تقتضي مزيداً من التفصيل في كلام التكملة غداً.