“ما وراء الخير والشر” عنوان رسالةٍ أو كتيّب للفيلسوف الألماني نيتشه، ويقصد بالعنوان والمضمون أنّ التعبيرات الأخلاقية اعتبارية وليست حقيقية، وتعتمد على الشيوع والرأي العامّ، وهو يطالب بالخروج منها وعليها.
ولستُ أقصد ذلك في ما أكتبه هنا. فإذا لم يكن ما يجري على غزة وفيها شرّاً فما هو الشرّ. وقد اختلف علماء الكلام (اللاهوت أو العقيدة) المسلمون في أصول الخير والشر، فقالت المعتزلة إنّ الخير والشرّ أو الحسن والقبيح عقليّان أو يحكم بهما العقل، بينما قالت الأشعرية (من أهل السنّة) إنّهما شرعيان، أو إنّ ما قال الشرع إنّه حَسَن فهو حسن، وما قال إنّه قبيح فهو قبيح ينبغي اجتنابه.
ما انتهى الأمر عند هذا الحدّ، فهناك الأشياء وهناك الأعمال، وهناك المساحة الواسعة أو الفراغ التشريعي حيث لم يحكم الشرع بشيء، فيلجأ الفقيه اجتهاداً إلى المآلات أو الآثار والنتائج في الأفعال الظاهرة، بينما يلجأ الورِعون والأتقياء إلى النيّات، لأنّ الأثر والقاعدة الشرعية يقولان: “إنّما الأعمال بالنيّات”، وهي بالطبع بين الإنسان وربّه. والفقيه غير الصوفي فيظلّ متمسّكاً بالمآلات والآثار المترتّبة على الفعل أو الترك، وتأتي القاعدة: “درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح”، وكلُّ ذلك في ما لا حكم شرعيّاً فيه.
“ما وراء الخير والشر” عنوان رسالةٍ أو كتيّب للفيلسوف الألماني نيتشه، ويقصد بالعنوان والمضمون أنّ التعبيرات الأخلاقية اعتبارية وليست حقيقية، وتعتمد على الشيوع والرأي العامّ، وهو يطالب بالخروج منها وعليها
لماذا كلّ هذا الدوران؟
يتعلّق الأمر بجرائم الإبادة التي تتّهم جنوب إفريقيا إسرائيل بها أمام المحكمة الدولية. وقانون المحكمة لا يستخدم تعابير “الخير والشرّ” الدينية، بل السوء النظري والعملي أو الضرر المترتّب على الفعل، على اختلاف الأحجام والمقادير لجهات مخالفة القانون الدولي الإنساني، أو الوصول إلى الإرهاب، فجرائم الإبادة ومقدّماتها.
لماذا يُقدمُ الأفراد والدول على الأعمال العنيفة؟
من أجل الكسْب المادّي أو السياسي أو للدفاع عن النفس، وفي الأصل تسري قاعدة: “لا ضرر ولا ضِرار”. والدول والمحاكم تهدف بإجراءاتها إلى منع الضرر أو دفعه فتنجح أحياناً ولا تنجح في أحيانٍ أُخرى. ويقول المراقبون إنّ ما تملك محكمة لاهاي فعله سريعاً إصدار قرارٍ بوقف القتال حتى لا تتفاقم جرائم الأفعال الجنائية التي يمكن وصْفُها بالإبادة. وقد قال رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو سلفاً إنّه لا يأبه بأحكام لاهاي، كما لا يأبه بأفعال “محور الشرّ” الذي قال إنّه لن يتوقّف عن تحرّشاته حتى يتوقّف العدوان على غزة.
فهل هي الدائرة المفرغة؟
لا ليست كذلك، بل هي لعبة عضّ الأصابع حتى يتعب أحد الطرفين أو يتنازل.
من كلّ الأطراف كثر الحديث عن الأخلاق، وما بدأ ذلك بحرب غزة من الطرفين، بل حدث بقوّة في الحرب الروسية على أوكرانيا. حديث الأخلاق تمضي فيه المنظّمات الإنسانية وجماعات المجتمع المدني والإعلاميون الذين يتابعون المعارك. أمّا أنصار أوكرانيا فيتحدّثون عن انتهاك سيادة الدولة، وعن انتهاك القانون الدولي. وقد تعب الأوروبيون، واختلف الأميركيون فيما بينهم، فإذا توقّف الدعم لأوكرانيا أو ضعُف وتقدّمت روسيا فهل يمكن الحديث عن حلٍّ عادل أو قانوني وأخلاقي، ما دامت أوكرانيا ستفقد حوالى الرُبع من أراضيها أو أكثر إذا لاحظنا ضمَّ روسيا لجزيرة القرم من قبل عام 2014؟!
من معايير الدين إلى معايير القانون الدولي فمعايير الأخلاق، نجد أنّ الانتصار معظم الأحوال لمعايير القوّة التي تأبى الخضوع للدين أو الأخلاق الإنسانية أو القانون الدولي.
يقول المراقبون إنّ ما تملك محكمة لاهاي فعله سريعاً إصدار قرارٍ بوقف القتال حتى لا تتفاقم جرائم الأفعال الجنائية التي يمكن وصْفُها بالإبادة
“أخلاق المسؤوليّة”
فلنعُد إلى الفعل والفعل السياسي الذي تقوم عليه الدول. ماكس فيبر (1864-1920)، السوسيولوجي الألماني الذي عمل في سوسيولوجيا الأديان والدولة، يرى أنّ الفاعل السياسي الحقيقي هو الذي يملك رسالة أو يقوده اقتناع أو اعتقاد. وإلى ذلك فإنّه (أي السياسي) إذا دفعه الاعتقاد باتجاه الاحتراف والعمل كما ينبغي أن يحدث فإنّ “أخلاق المسؤولية” هي التي ينبغي أن تحكم عمله.
فكيف نحكم على اقتناعه أو فعله؟ بالدين أم بالأخلاق أم بطاعة القانون؟
نحكم عليه عند ماكس فيبر بما يقدّمه للمصالح العمومية أو النفع العامّ. لكن إذا لم تكن لدى السياسي أهداف تتّصل بالنفع العام، بمعنى أنّه لم تكن لديه رسالة، بل إرادة في النجاح الشخصي؟
في زمن ماكس فيبر كان يرى أنّ هذا هو شأن معظم السياسيين الأميركيين، وأمّا الألمان فتسيطر عندهم البيروقراطية في العمل العامّ. لكنّ الأميركيين يتميّزون بأنّهم “محترفون”، وليس كذلك الألمان الذين لم يكونوا يملكون أحزاباً كبرى مستقرّة. وبالطبع لا يخلو الأمر من أن يظهر من بين المحترفين، أكثر من البيروقراطيين، قادة كبار ذوو كاريزما وأخلاق مسؤولية في العمل السياسي. وهكذا يظلُّ لدى فيبر كما لدى سائر الفلاسفة دوافع أخلاقية للعمل السياسي الذي يستهدف إيصال النفع لأكثر المواطنين، كما يقول البراغماتيون.
يذهب معظم المحلّلين إلى أنّ هذه الدوافع ذات الأبعاد الأخلاقية لا توجد لدى نتانياهو وكثيرين في مقدّمة المسرح السياسي. إنّما الذي يحفظه حتى الآن في ذروة السلطة وصوله إلى سدّة الحكم بالانتخابات أي بإرادة كثرةٍ من الناس، وإن تغيّر المزاج الآن.
هل تطيح الظروف العالمية التي تتّسم بالمغالبة العنيفة بكلّ حواجز الأخلاق والقوانين في زمن “العولمة الثالثة” كما يسمّيها الرئيس الأميركي السابق، والمرشّح الرئاسي الحالي، دونالد ترامب؟
هذا ما يراه كتّاب العدد الأخير من مجلّة “فورين أفيرز” الأميركية، بل يعتبر بعضهم أنّ “ما وراء الأخلاق” هو مرض الولايات المتحدة الأوّل.