يقول مراقب سياسي: «هل يُعقَل أنّ لبنان ينجح في الترسيم بينه وبين إسرائيل، ويعجز عن «الترسيم» بين بشري والضنيه، أو بين أفقا ولاسا، أو بين المناطق التي تشهد نزاعات عقارية؟
المراقب الآنف الذِكر لا يسأل سؤال الجاهل بل سؤال العارف، لأنّه يعرف أنّ السلطة قادرة على «الترسيم» لكن لا إرادة لها في ذلك، لأنها لو رسَّمت وحلَّت الخلافات بين المناطق والقرى والبلدات، «فماذا تشتغل» في هذه الحال؟ خصوصاً أنّ عملها يتركَّز على فض النزاعات، وحين تُفض هذه النزاعات، بالقانون، ينتفي دور السلطة.
قاعدة «فَرِّق تسُد» التي ورثتها السلطات المتعاقبة، منذ أيام السلطنة العثمانية، لم تَحِد عنها، هل يُصدّق أحدٌ، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ هذه النزاعات التي لا تحتاج سوى إلى مسَّاح طوبوغرافي، وخبير عقاري، تستلزم عقوداً من الزمن؟ المؤرخون الذي تركوا مراجع موثوقة، وأساتذة التاريخ الذين كتبوا عن الحقبة العثمانية وحقبة الإنتداب، يعرفون كل الحقائق، فلماذا لا يُراجَعون؟ الوثائق العثمانية موجودة في اسطنبول، والوثائق الفرنسية موجودة في مراكز الأرشيف في فرنسا، وفي الجامعات العريقة في لبنان، ولا سيما منها الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف، وقيادة الجيش – مديرية الشؤون الجغرافية.
فلماذا، كما يُقال بالفرنسية chercher midi à quatorze heures، لماذا لا تعمد السلطة إلى تبسيط الأمور، والابتعاد عن تعقيدها، وإدخالها في الزواريب السياسية؟
إنّ ما تقوم به السلطات اللبنانية المتعاقبة، هو نسخة طبق الأصل عما كانت تقوم به في التقسيمات الإدارية للإنتخابات النيابية، فكانت هذه التقسيمات غير عادلة وغير متوازنة، لكنها بالنسبة إلى السلطات المتعاقبة، كانت تؤدي الوظيفة المرجوَّة منها، أن يبقى المواطنون مختلفين في ما بينهم.
وما يُقاس على موضوع التقسيمات الإنتخابية «الخلافية»، يُقاس أيضاً على التقسيمات البلدية، إنّ أي خبير إداري، يعتبر أنّ البلديات في لبنان في حال «تخمة» بالنسبة إلى عددها، وأنّ استحداث بلديات جديدة لم يكن سوى لأرضاء هذه العائلة أو تِلك. هناك بلديات مستحدثة يكاد نطاقها البلدي لا يُشكِّل حيّاً أو شارعاً في بلدة أو مدينة كبرى، فلماذا هذا «السخاء» في عدد البلديات؟
من القضايا العقارية إلى التقسيمات النيابية إلى التقسيمات البلدية، السلطات المتعاقبة وضعت قنابل موقوتة وألغاماً لتنفجر بين الناس، لتتدخل بأسلوب «شيوخ الصلح»، لكن هذه المرة بدأت القنابل تنفجر بين يديها، وبدأت الدماء تسيل بدل حبر الخرائط، فهل تعود إلى وثائق السلطنة العثمانية، الموثوقة، وإلى وثائق الإنتداب الفرنسي، العلمية، وإلى خرائط الشؤون الجغرافية في قيادة الجيش؟ أم ستبقى على الإرتجالية، بمعنى أنها تشكِّل لجنة ثم تعلِّق عملَها؟ كما حصل إثر حادثة القرنة السوداء؟