الرئيسيةمقالات سياسيةمعالجة المشكلة المالية

معالجة المشكلة المالية

Published on

spot_img
في زمن التضخم القوي والأزمات المصرفية، يتكلم الجميع عن السياسة النقدية وكأنها الوحيدة التي يمكن أن تعالج مشكلة ارتفاع الأسعار والأزمات النقدية. حقيقة لم تكن لتحصل هذه الأزمات لو اهتمت الحكومات بسياساتها المالية من ناحيتي الانفاق والايرادات، وبالتالي منعت تفاقم العجز المالي المضر بالاستقرارين المالي والاجتماعي. هنالك دول عدة تحقق فائضا ماليا لكنها تنفقه على أمور ثانوية، أو بالأحرى يهدر ولا يؤدي الى بناء اقتصادات سليمة مستقرة. ما جرى في الولايات المتحدة في السنوات القليلة السابقة يصلح دروسا لكل الحكومات في كل الدول. تضخم اليوم مختلف عن السابق اذ ينتج في قسم كبير منه عن الحرب الأوكرانية والكورونا كما عن مشكلة سلاسل الامداد أي من العرض المرتبط بهما. تضخم العرض يبقى مختلفا عن تضخم الطلب في أسبابه ومصادره وكيفية معالجته.
في الولايات المتحدة التي تعبر نموذج الاقتصاد الحر، تقوم صراعات سياسية حادة حول تطور العجز وضرورة ابقائه في حدود مقبولة أو سليمة. آخر مرة حققت الولايات المتحدة فائضا ماليا كان في 2001 ومنذ ذلك الحين، تقترض الحكومة سنويا حتى وصل مجموع استدانتها الى 32 ألف مليار دولار. تصدر الحكومات الأميركية المتعاقبة سندات يستثمر بها المواطنون مما سبب مضاعفة هذا الاقراض 4 مرات منذ 2001. مجموع قيمة سندات الخزينة التي يملكها الجمهور ارتفعت من 32% من الناتج المحلي الاجمالي الى 94%، والحل المالي الواقعي غير متوافر. ستسدد الحكومة الأميركية 605 مليارات دولار قيمة فوائد على ديونها، وهذه أموال كبيرة يمكن أن تقضي على الفقر ربما عالميا. أسواء السياسات المالية هي التي تنكر ديونها أو تلغيها من جانب واحد، وهذا في منتهى الغباء وعدم المسؤولية.
تراكمت الديون الأميركية خلال فترتين زمنيتين هما 2007 \ 2009 أي خلال الأزمة المالية الكبرى وثانيا خلال فترة الكورونا وضرورة مواجهتها في الانفاق لهدف التعافي الصحي. خلال الفترة الأولى، خفت ايرادات الدولة وهذا طبيعي في فترة شلل اقتصادي ونتيجة التغيرات الكبرى التي حصلت في أسواق العمل وضرورة تدخل الحكومة لتخفيف الأوجاع عن المواطنين. في تلك الفترة اهتمت الحكومة الأميركية بتأمين الغطاء الاجتماعي المطلوب، وبالتالي ارتفع الانفاق الى حدود عالية. أما في الفترة الثانية ودون أن ننسى أعداد الموتى المخيفة التي سببهتها الكورونا، رفعت الحكومة الأميركية المساعدات للعائلات وقطاع الأعمال كما للعاطلين عن العمل بالاضافة الى مساعدة كافة الحكومات والادارات المحلية في الولايات الخمسين.
بين سنتي 1972 و 2021، أنفقت الحكومات الأميركية 20,8% من الناتج بينما لم تبلغ الايرادات الا 17,3% من الناتج نفسه، أي عمليا عجز كبير قدر ب 31,4 ألف مليار دولار. معدل نسبة الانفاق من الناتج في مجموعة الدول السبعة هي 50% أعلى من الشريك الأميركي أي أن المشكلة هي عامة وربما دولية.
ما هي الحلول الممكنة وهل يمكن تسديد الديون عبر تخفيض قسري للانفاق ورفع كبير للايرادات؟ المهمة صعبة للأسباب التالية مجتمعة:
أولا: من غير الصحي أن تحاول أي حكومة تخفيض عجزها المالي بسرعة وبخطوات كبيرة منعا لانهيار الاقتصاد كما الأوضاع الاجتماعية. المطلوب هنا تعاون السياسات وخاصة المالية والنقدية لتنشيط الاقتصاد ورفع النمو وبالتالي تأجيل تسديد الديون الى فترات مستقبلية ربما تكون بعيدة. من الضروري الانتظار حتى تنخفض الفوائد وترتفع الاستثمارات وبالتالي النمو. هنالك أولويات أساسية يجب التنبه لها منعا لانهيار الشبكات الاجتماعية السليمة.
ثانيا: لا يمكن للحكومات أن تقوم باصلاحات كبرى من دون دعم الرأي العام. في فرنسا مثلا، نشهد صراعات حادة بين الحكومة والمواطنين حول نظام التقاعد ومشروع رفع سنه الى 64،علماً أن معظم دول العالم أقر الـ 64 أو أعلى حماية للتوازن المالي في وقت يصل خلاله العمر المرتقب الى أعلى من 85 سنة. في الولايات المتحدة، لا يريد الأميركيون تخفيض الانفاق بسرعة اذ أن المزيد من التضحيات مرفوض في وقت يرون خلاله تدخل حكومتهم في مشاريع وطموحات خارجية لا اهتمام لهم فيها. هذا هو حال معظم سكان العالم اليوم حيث أصبحت الحياة صعبة والضمانات أدنى وغير مؤكدة. بالرغم من أن المجتمع العالمي أصبح اليوم أغنى مما كان عليه في العقود الماضية، الا أن الحياة أصبحت أصعب وغير مستقرة للأكثرية الساحقة من المواطنين.
ثالثا: كيف يمكن تمويل الانفاق وصولا الى تخفيف العجز والديون؟ لا بد من النظر الى الضرائب وهي متنوعة وبالتالي اختيار المجموعة المناسبة هو في غاية الأهمية بسبب التأثير الكبير على النشاط الاقتصادي العام وبالتالي على النمو. التمويل عبر الاقتراض هو سيىء لأنه يوسع فجوة الدخل داخل المجتمعات. عوض تطبيق نسب ضرائبية مرتفعة على الأغنياء والشركات الكبرى، تقترض الحكومة منهم وتدفع لهم الفوائد. هذا غير عادل ويسيء الى الفقراء. أما سقف الديون أي الحد الأقصى الذي يمكن أن يصل اليه مجموع الدين العام، فله فائدة واحدة وهو جعل المجالس النيابية والحكومات تراجع سياساتها المالية القائمة. الصراع الأخير حول رفع سقف الدين العام الأميركي هو نموذج للخلاف الجدي حول السياسات المالية.
رابعا: هنالك وقائع تربط الاقتصاد بالسياسة. التصرف المالي من قبل الحكومات الغربية وغيرها يساهم عمليا في زيادة شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة، وهذا ما شهدناه في الولايات المتحدة والبرازيل وغيرهما. ما يجري في فرنسا سيكون له نفس النتائج. هنالك وقائع في معظم الدول تشير الى استفادة المدن أكثر من الريف من الانفاق العام، وهذا يغضب الأرياف ويدفعها الى التطرف. من الخطاء دفع المناطق البعيدة اليه ولو عن غير قصد، لذا يجب على الحكومات التنبه الى توزيع انفاقها والنتائج الاجتماعية المرتبطة به.

أحدث المقالات

جنوب الحرب وشمال النازحين والدرّاجات.. تلغي”الدولة الوطنيّة”؟

كان المشهد في لبنان يوم الجمعة الماضي معبّراً جدّاً عن صورة البلد وإشكاليّاته، أو...

كيف سينعكس غياب رئيسي وعبد اللهيان على لبنان؟

بدأت التساؤلات تتوالى بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين عبد الأمير...

سباق التفاوض الإقليمي: “الثنائي الشيعي” للفوز بلبنان والرئاسة؟

أحداث من التاريخ يمكنها أن تتشابه أو أن تتكرر، وإن بسياقات وظروف مختلفة. أواخر...

الزيارة الأولى منذ اتفاق الدوحة… ما وصيّة جنبلاط من قطر؟

للمرة الأولى له منذ أيار 2008، يوم استضافت قطر القادة اللبنانيين وإعلان اتفاق الدوحة،...

المزيد من هذه الأخبار

قطر من “استوكهولم”: سلام شامل أو حرب أوسع..

تاريخ طويل من التفاوض الدبلوماسي بين القوى المحلّية والعالمية أعطى قطر القدرة على المراوغة...

هل تُطرَد غادة عون من القضاء؟

مع تحديد موعد لمثول النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون أمس...

سياسيّو لبنان: “الأطفال الذين يلعبون بالرمل”؟

يرسم بعض المهتمّين الأجانب بأزمات لبنان صورة غير متفائلة جرّاء استمرار ربط الحلول فيه...

“الخُماسية” تُطلق مساراً رئاسياً حتى تموز: مشاورات أو عقوبات

ما تضمّنه بيان اللجنة الخماسية بعد اجتماعها أول من أمس في السفارة الأميركية، أحدث...

مهلة حزيران للحــزب: الرئاسة… أو نتنياهو

تعدّدت المهل التي أُعطيت لإنجاز الاستحقاق الرئاسي من دون أن تَصدُق أيّ منها. إلا...

“اليوم التالي” في غــزة ولبنان: الحرب اقتراح إسرائيل الوحيد

على دوي الحرب وهديرها، تتعدد مسارات البحث عن ما يسمى بـ”اليوم التالي” لغزة، وهو...

ماذا فعل “حــزب الله” في ملف النزوح؟

في 2 تشرين الأول 2023 تناول الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ملف...

“الخماسية” في عوكر: “صيانة” دوريّة للحلّ

انعقد أمس الاجتماع الخامس للّجنة الخماسية المُمثّلة لواشنطن وباريس والدوحة والرياض ومصر في مقرّ...

صمود الحزب وحماس و”انتصارهما”: معركة نهاية الحروب في المنطقة؟

قاعدة “الحرب سجال” و”الأيام دول”، هي التي يعتمدها حزب الله وحركة حماس في المواجهة...

إنتقاد “المجتمع الدولي”… لتغييب إيران عنه؟

قد يكون انتقاد المجتمع الدولي والحملة على مواقفه، سواء في ما يخصّ عبء النازحين...

تعقيدات المفاوضات الحدودية: الطلعات والإعمار والتنقيب

لا كلام جدياً في الرئاسة. يستعيد سفراء اللجنة الخماسية حراكهم من خلال اجتماع تستضيفه...

الجيش بين باسيل و السيّد!

استبق الأمين العامّ للحزب السيّد حسن نصرالله جلسة التوصيات النيابية اليوم في شأن هبة...

نصرالله “المنتصر”: وصيّ على مستقبل لبنان وسوريا ولاجئيها

يستعجل حزب الله إعلان انتصاراته. لا يريد لها أن تقتصر على لبنان فقط، بل...

وثيقة بكركي: إيجابية بو نجم لا تُبدّد الصعاب

ستعلن بكركي وثيقتها التي حملت عنوان «المسيحيون في لبنان إلى أين؟» في غضون أسبوع...

عين الخارج على هويّة الرئيس قبل الحدود

كلٌّ عالق في مأزقه الخاصّ. جو بايدن عالق في استحقاقه الرئاسي. بنيامين نتنياهو عالق...