أهميّة وجود فرنجيّة في بعبدا
ليس خافياً على أحد أنّ وجود سليمان فرنجية في قصر بعبدا يحول دون “هضم” وجوده ودوره لأنّ الرجل يتمتّع بتحالفات تعطيه قوّة تزيد من عناصر فعّاليّته في استعادة الدور المسيحي، خصوصاً في ما يتعلّق بمراجعة بعض التفاصيل الدستورية، ولأنّه عنصر طمأنينة للمسلمين.
بهذا المعنى، ما قد يتحصّل عليه المسيحيون، خصوصاً إذا ما حاز دعمهم، قد يؤدّي إلى حلّ معضلات أصلية في البلد. هذا ليس إغواءً ولا انتقاصاً من عقلانية جهاد أزعور وميزاته الشخصية الكثيرة. لكنّ نقاط ضعف الأخير تبدأ من ناخبيه البرلمانيين الذين سمّوه “مرشّح التقاطعات الظرفية”.
رصانة جهاد أزعور وعدم إحاطته بنظام ومنظومة لم تسقطهما 17 تشرين وما تلاها من انهيارات صاخبة سيجعلان من رئاسته معلّقة على توافقات قوى النظام، إضافة إلى أنّ ناخبيه ليسوا كتلة واحدة ولا ورقة سياسية تجمعهم.
ليس خافياً على أحد أنّ وجود سليمان فرنجية في قصر بعبدا يحول دون “هضم” وجوده ودوره لأنّ الرجل يتمتّع بتحالفات تعطيه قوّة تزيد من عناصر فعّاليّته في استعادة الدور المسيحي
ليس وراء وزير المال السابق طائفة أو كتلة شعبية عابرة للطوائف. حتى “النواب التغييريون” خرج من بينهم من قال حرفيّاً: “ملزمون بانتخابه” ولسنا ملزمين باتّباع سياسته في حال نجاحه.
إلى هذا وذاك، ما قد يتحصّل عليه فرنجية من سوريا والحزب في مناقشة الطائف وترسيم الحدود قد يكون فريداً في بابه. وهذا قد لا يستطيع أزعور حتى التفكير فيه، إلا إذا كان يعتبر أنّ البلد يُدار من الخارج كما في السابق. هذا زمن ولّى.
صارت في لبنان دويلة أقوى من الدولة. هذه الدويلة اسمها الحزب. والواقعية تفترض أنّ على مَن يريد مِن الخارج دخول البلد التنبّه إلى أنّه سيدخل شريكاً. حينئذٍ سيكون حقّ النقض عند واحد من الشريكين.
مفارقات في الانتخابات الرئاسيّة
المفارقة في هذه المعركة الرئاسية تُنبئ على وجه من الوجوه بإقصاء فعليّ لكلّ من الطائفتين: السُنّيّة والدرزيّة، واعتبارهما من ضمن تحصيل الحاصل. مع أن كلا المكوّنين ولو في الحد الأدنى من عدد النوّاب السّنة مثل كتلة الاعتدال الوطني ساعة الحقيقة هما المقرّران الحاسمان لإسم الرئيس.
في الشكل تعطي المنافسة الرئاسية انطباعاً بوجود خلاف عريض يشقّ اللبنانيين، ومصدره اثنان: شيعي وماروني. وكلاهما نتاج وعي جذره الأصلي في التاريخ. العنصر الشيعي بلغ ما بلغه وتضخّم حجمه بالسلاح ثأراً لقرار اتّخذه عام 1920 بعدم المشاركة في السلطة. أمّا العنصر المسيحي والماروني على وجه أدقّ فيسعى إلى استعادة ماضٍ حتى وجوده في الذاكرة صار على هذا القدر من الهشاشة .
على العكس ممّا أظهره “تفاهم مار مخايل”، تجد عوامل “التشابك” حتى الساعة أسبابها في أدوار استجدّت وأخرى اختفت. الطرفان الشيعي والمسيحي وفدا إلى الطائف من مدخل الضرورة السياسية. كلاهما يريدان تعديلاً فيه في أبسط الأحوال، أو الانقلاب عليه في أحسنها.
صارت في لبنان دويلة أقوى من الدولة. هذه الدويلة اسمها الحزب. والواقعية تفترض أنّ على مَن يريد مِن الخارج دخول البلد التنبّه إلى أنّه سيدخل شريكاً. حينئذٍ سيكون حقّ النقض عند واحد من الشريكين
التشابك الشيعيّ – المسيحيّ
بلغ الشيعة حجماً يريدون مقابله وزناً تنفيذياً في النظام. أمّا الموارنة فقد ضمر حضورهم ويريدون أيضاً وزناً تنفيذياً لرأس الحكم كضمانة “للوجود المسيحي” في المشرق. يتقاطع موقف الفريقين من النظام. كلاهما يعتبر أنّ وثيقة الوفاق الوطني “امتياز” أو “أفضليّة” للسُّنّة. ساعد في تكريس هذه “القناعة” أحياناً، وعن سوء تقدير، السُّنّة أنفسهم الذين كانوا يتصدّون لكلّ اعتراض يصف الاتفاق بأنّه رفعهم وأنزل سواهم.
لم يدافعوا عنه كـ “وحدة وطنية” قادرة على صيانة التنوّع. حتى إنّ بعضهم دافع عنه كما كانت تفعل “المارونية السياسية” في الجمهورية الأولى. وهذا على وجه التحديد أكثر ما كان يستنفر “الشيعية الصاعدة” منذ ثورة الخميني. كان كلّ هذا الجحيم الطائفي يحصل في ظلّ فقدان قوى ديمقراطية.
قرأت “الشيعية السياسية” سنوات ما بعد الطائف، استناداً إلى ما تراكم تاريخياً. فإذا كان السُّنّة جاؤوا باستقلال البلد من مصر ومن النحّاس باشا، فيما الموارنة بناة الفكرة وبوّابة الحداثة على الغرب، فهذا عنى للشيعة أنّ وجودهم مقرون بدور يعرّفون من خلاله عن ذاتهم السياسية في النظام الطائفي.
لذا حصرت “الشيعية السياسية” معركة تحرير لبنان من إسرائيل لتعلن بالفم الملآن “نحن من يحدّد جيوبولتيك” البلد. هذا ترجمته بالذهاب إلى سوريا لنصرة نظامها، وبالحيلولة بالسلاح والقوّة دون تنفيذ قرارات الشرعية اللبنانية والدولية القاضية بحلّ كلّ الميليشيات، ومنها ميليشيا الحزب.
احتقار العقول
والحال هذه، تقع “معارضة التقاطعات الظرفية” في باب المعاندة الشخصية وتأتي خلواً من السياسة. والمقيت فيها أنّها تجد طريقها مرّة عبر ادّعاء “احتكار التمثيل”، ومرّة عبر تجريد فرنجية من “لبنانية” وضعت معاييرها “الجبهة اللبنانية”، ومرّة ثالثة عبر تنسيبه وجعله تابعاً لهذا أو ذاك ، وذلك على الرغم ممّا قام به الرجل حفظاً للعيش المشترك والسلم الأهلي قبل الطائف وبعده.
ما تقدّم يجعل سلوك “معارضة التقاطعات” اعتداءً على العقول واحتقاراً لها. الاعتداء على العقل يستمدّ قوّته من محاكاة الغريزة لا المصلحة. الاحتقار يستنجد بالمواضي الأهليّة. في الحالين تشتغل الغرائزية على الضدّ من المستقبل والتنوّع الثقافي الذي جعل من لبنان “رسالة” على ما ورد في السينودس. يوغل هذا الاعتداء في عدوانيّته عندما يتحدّث عن انتصارات لم تحصل. ما حصل هو انحسار للدور والحضور المسيحيَّين. الأسوأ كان في تقلّص الديمغرافيا المسيحية فيما قادتها يُصلون بعضهم بعضاً حروب “الأنا”.
المصير البائس
أغنت هذه التجربة التنافسية نحو الرئاسة الأولى بدلالاتها السلبية النظام والاجتماع اللبنانيَّين بمزيد من النقائص السياسية والدستورية. وأعادت إلى الأذهان قاعدة صارت “عادة” لبنانية تتمثّل بحبّ المُحسنين الماليّين وتسعد أيّما سعادة بالتدخّل الخارجي.