تعود معرفتي بالنائب محمد رعد إلى ما يقارب أربعين عاماً. عرفت والده كرجل فاضل يملك دكّاناً للحلاقة في منطقة المصيطبة بالقرب من منزل الرئيس صائب سلام.
تميّز دكان الحلاقة الخاصّ به بوجود العديد من الكتب الدينية والفكرية، وما مررت يوماً بجانب دكّانه إلا ورأيته يمسك كتاباً يقرأ به أو نسخة من القرآن يتلو بعض السور والآيات. كان حريصاً على أداء الصلاة في مسجد المصيطبة عند صلاة الظهر والمغرب. حينها لم يكن هناك حسينية ولا مجمّع بل كان ذاك المسجد يجمع الجميع. يقف الحاج رعد بوسط مؤخّرة المسجد واضعاً القرص على الأرض مؤدّياً لصلاته قبل أن يتوجّه لمنزله في شارع أبي بكر الصدّيق بمواجهة فرن “ميلانو” المعروف جيّداً عند أبناء المصيطبة.
كان رجلاً حليماً هادئاً وقوراً، يحبّه أهل المنطقة. تقديره انسحب على أبنائه ومنهم الحاج محمد وعلى رفاقه وأبرزهم الحاج علي صفا الشقيق الأكبر لوفيق صفا، وهو صاحب مطعم للفول والحمّص في شارع علي بن أبي طالب الذي وُلدت فيه، والحاجّ أبو علي ناجي صاحب ملحمة في الشارع نفسه. كان الثلاثة يذهبون معاً إلى المسجد ويعودون معاً إلى منازلهم. لم تسنح لي فرصة التحدّث معهم مباشرة سوى مرّة واحدة بعدما ألقيت قصيدة بذكرى المولد النبوي الشريف في احتفال بالمسجد باسم “أطفال المصيطبة”. أوقفوني في الشارع صدفة وقدّم لي الحاج صفا باسمهم ثلاثتهم هديّة كانت عبارة عن مبلغ من المال كي أشتري به ما أرغب. تمنّعت عن تسلّم المبلغ خوفاً من غضب والدي، فقال لي الحاج رعد: “لا تخَف يا ابني، أنا سأخبر والدك أنّك تستحقّ هديّة منّا. بارك الله بك”.
عندما كنّا نرى النائب محمد رعد في المنطقة وكان شابّاً يافعاً لم نكن نحن فتية الحيّ نعرف اسمه. كنّا نطلق عليه اسم ابن الحاج رعد. لم ألتقِ به منذ أن بات نائباً في البرلمان على الرغم من عملي الصحافي. الرجل بموقعه السياسي والأيديولوجي كان بالضفّة الأخرى ولطالما كانت خطاباته ونبرة صوته تستفزّني وأرى فيه رجلاً متشدّداً مجرّداً من العواطف والأحاسيس.
العزاء لمحمد رعد الجار والأب وابن الرجل الوقور الحليم. العزاء لنا أهل المصيطبة وبيروت، أبناء كنّا أو مقيمين
تمرّ الأيام سريعة حتى علمت باستشهاد نجل النائب محمد رعد على الحدود بمواجهة العدوّ الإسرائيلي فانتابني الحزن وكأنّ لغماً انفجر في ذاكرتي. استعدت بلحظات كلّ صور الماضي في مسقط رأسي بالمصيطبة. صورة محمد رعد الشابّ وصورة والده الرجل المتديّن. صور كلّ الأحبّة والجيران. استعدت جملة اعتاد أبناء منطقتي أن يقولوها عندما يموت نجل أحدهم: “الله يصبّر أبوه صعب الواحد يدفن ابنه”.
في المصيطبة لم يقُم عزاء للشهيد على الرغم من أنّ المنطقة هي الأحقّ بوداعه. هي الضيعة البديلة لعائلته طوال سنوات الحرب. تابعت الجنازة على شاشة التلفاز. قبيح هو الوداع. الموت حقّ لكنّ الفراق صعب. تأمّلت كثيراً وجه النائب محمد رعد وبحثت فيه عن كلّ شيء وأيّ شيء وما وجدت بثناياه سوى ملامح الأب المفجوع المحبّ لفلذات كبده، المنفطر قلبه على فقدان أحدهم.
كان النائب رعد في الجنازة يشبه كلّ الرجال الذين فقدوا أبناءهم وأحبّاءهم. كان يشبه الزعيم صائب سلام الذي تأمّلت وجهه طفلاً وهو يتقبّل العزاء بنجله فيصل في الصالة أسفل قصره بالمصيطبة. كميّة الحزن في وجهه جعلتني أشدّ على يد والدي التي كنت أمسكها بانتظار تقديم العزاء. كان محمد رعد يشبه النائب محمد يوسف بيضون عندما فقد نجله وحفرت الدموع خطوطها على خدّيه. كان يشبه محمد ديب عيتاني جار والده وهو يمسك نعش ابنه الأوسط قبل أداء صلاة الجنازة عليه. دموع محمد رعد المحبوسة كانت تشبه دموع أبي إيلي مياسي الجار الدرزي عندما اختُطف نجله إيلي. دموعه المحبوسة تشبه دموع الجميع، تشبه دموع كلّ الآباء المفجوعين.
العزاء لمحمد رعد الجار والأب وابن الرجل الوقور الحليم. العزاء لنا أهل المصيطبة وبيروت، أبناء كنّا أو مقيمين. أمام حزن أب على فراق نجله تصغر الكلمات وتنزوي الأحقاد فلا قهر يماثل قهر الرجال على مرّ التاريخ.