في هذه الأيام، يعدّ المطران أنطوان أبي نجم مع مجموعة من الشخصيّات، النسخة الثانية من وثيقة بكركي ذات الأبعاد المهمّة. الوثيقة تواجه مصيراً من مصيرين. الأوّل أن تسقط بين خلافات القوى المسيحية الحاضرة حولها، والثاني أن تعيد بكركي إلى زمن مضى. التحدّي، الذي يُخاض حاليّاً في الصرح، معادلته تقول: هل ينجح البطريرك الراعي في تأسيس جبهة موحّدة حول موقف سياسي واحد كما فعل البطريرك صفير يوم كان رأس حربة قضيّة إخراج السوري من لبنان؟ قد تجوز وقد لا تجوز المقارنة بين المرحلتين لوجود تباينات أساسيّة بينهما. ولكنّ التحدّي الأكبر أمام سيّد بكركي اليوم هو كيف سيوفّق بين مواقف القوى المسيحية لإصدار وثيقة عليها بند إشكالي هو بند السلاح.
على مرّ العقود كتب الصرح البطريركي التاريخ اللبناني عبر صياغة الأحداث وتقرير المصير. البطريرك الياس الحويّك كتب تاريخ لبنان بإعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. البطريرك أنطوان عريضة كتب تاريخ لبنان في استقلاله عن الفرنسيين عام 1943. والبطريرك أنطونيوس خريش كتب تاريخ مساندته القوى المسيحية في حرب 1975، وصولاً إلى البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي كتب التاريخ في قيادته المسيحيين في محطّات مفصليّة، فكان سيّد بكركي الذي وافق على اتفاق الطائف عام 1989، وقرّر مقاطعة الانتخابات النيابية عام 1992، وكرّس الدعوة إلى الانسحاب السوري من لبنان عام 2000، ورفض إسقاط الرئيس إميل لحّود في الشارع عام 2005. فهل يكتب الراعي تاريخ لبنان اليوم بمواجهته “أزمته الوجوديّة” و”تعاظم النفوذ الإيراني فيه”.
لن تقتصر وثيقة بكركي على هذه البنود، بل ستطال قضايا أخرى مسيحية ووطنية. إلا أنّ هذه البنود إشكاليّة ولا تزال عالقة
يمرّ اليوم الصرح البطريركي بأصعب أيّامه. إذ يواجه أزمة وجودية لبنانية، وهو ما يعتبره الفاتيكان خطراً على الهويّة اللبنانية.
حاول البطريرك الراعي أكثر من مرّة اختراق الأزمة، لكنّ محاولاته باءت بالفشل. ها هو يحاول مجدّداً، لكن هذه المرّة بتأنٍّ وتعاون مع مطارنة وشخصيّات أخرى. يحاول خلق موقف موحّد لجبهة موحّدة في وثيقة أصرّ على أن يصفها بالوطنية لا المسيحية، يهدف من خلالها إلى اختراق الأزمة والوصول إلى حلول للبنود اللبنانية الإشكالية من دون صدام. فهل ينجح بذلك وسط ما سُرّب عن هذه الوثيقة من بنود انطلقت من سقف عالٍ لا يتيح لها البقاء على قيد الحياة؟
وثيقة الثوابت
يقول المعنيون بإصدار وثيقة بكركي إنّها وثيقة تكرّس الثوابت. فما هي الثوابت؟
1- تنفيذ القرارات الدولية 1701، 1559، و1680.
2- تأكيد الصيغة اللبنانية بما فيها الحفاظ على الهويّة، ومقاربة رئاسة الجمهورية بشكل يمنع الفراغ المتكرّر فيها.
3- تأكيد الدستور واتفاق الطائف بكلّ ما فيه. وما لم يتحقّق من الطائف أكثر وأهمّ ممّا تحقّق.
4- تطبيق اللامركزية الإدارية.
5- حلّ الميليشيات وحصر السلاح في يد الجيش اللبناني.
لن تقتصر وثيقة بكركي على هذه البنود، بل ستطال قضايا أخرى مسيحية ووطنية. إلا أنّ هذه البنود إشكاليّة ولا تزال عالقة بين مواقف الكتل الممثّلة حول طاولة بكركي.
بين صفير والراعي
بين تجربة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وتجربة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي أكثر من فارق.
حاول البطريرك الراعي أكثر من مرّة اختراق الأزمة، لكنّ محاولاته باءت بالفشل. ها هو يحاول مجدّداً، لكن هذه المرّة بتأنٍّ
– أوّلاً: إنّ صفير يوم نجح في تشكيل جبهة معارضة للاحتلال السوري في لبنان انطلق من ثابتة أنّه جيش غير لبناني، فكانت مهمّته الداخلية والخارجية التي برزت في زيارته لواشنطن وكندا عام 2001 تنطلق من حسن الجوار شرط الانسحاب السوري من لبنان.
اليوم اختلف الوضع. إذ إنّ الراعي يتعامل مع سلاح الحزب اللبناني وليس الأجنبي. وبالتالي الملفّ أكثر دقّة وتعقيداً لأنّه معنيّ ببيئة لبنانية واسعة. وشاء أو أبى معارضوها، هي جزء من النسيج اللبناني، وحلّ هذه الإشكالية معها يختلف عن التعامل مع “محتلّ أجنبي”.
– ثانياً: في عهد صفير الذهبي، كان الصرح العمود الفقري لرفض السلاح الفلسطيني والسوري على خلفيّة اعتبارين:
1- دور السلاح الفلسطيني في الحرب اللبنانية ورفض بقائه في لبنان عاملاً مؤثّراً على الاستقرار.
2- الدور الأمنيّ السوري الذي سيطر على الساحتين السياسية والأمنيّة اللبنانية.
في المقابل، يبدو اليوم الوضع أكثر دقّة في المطالبة بتنفيذ الدستور والطائف من خلال توحيد البندقية في يد الجيش اللبناني ونزع سلاح الميليشيات. فهل يُعتبر بذلك الحزب ميليشيا أو مقاومة؟ سبق للراعي أن تحدّث أكثر من مرّة عن وجوب حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية. غير أنّ ذلك يحتاج إلى أكثر من عنوان مطلبي. يحتاج إلى مقاربة وطنية لضمان نجاح مسعى البطريركية الراهن.
– ثالثاً: إنّ البطريرك صفير تميّز بشخصيّته القويّة. فهو صاحب إرادة صلبة ويتمتّع بصفات قيادية لافتة في زمن أمنيّ كان الموقف فيه تهمة. شكّل البطريرك صفير جبهة موقف في غياب المرجعيات المسيحية الأساسية بعد الحرب. سمير جعجع في السجن وميشال عون في المنفى. فكان صفير العصا التي اتّكأ عليها المسيحيون في زمن “إحباطهم”، وكانت بكركي مركز القرار المسيحي .
يمرّ اليوم الصرح البطريركي بأصعب أيّامه. إذ يواجه أزمة وجودية لبنانية، وهو ما يعتبره الفاتيكان خطراً على الهويّة اللبنانية
اليوم تبدو بكركي مختلفة. شخصية البطريرك الراعي لا تشبه شخصية صفير. هو أكثر دبلوماسية وأكثر ليونة، وعالق بين خلافات القيادات المسيحية التي عادت إلى العمل السياسي. في أكثر من محطّة لم يستطع التأثير عليها ليوحّد موقفها. يخطو اليوم بين الألغام في محاولة قد تكون الأخيرة لإصدار وثيقة يفترض أن تكون على قدر تاريخ الصرح المعاصر في صياغة الأحداث اللبنانية والدور الذي يجب أن تلعبه بكركي في الأزمات الكبرى.
خلافات قد تسقط الوثيقة
على طاولة بكركي نقاش عالي السقف. ففي معلومات “أساس” أنّ القوات اللبنانية والكتائب يسعيان لتكريس رفض سلاح الحزب في الوثيقة. أمّا التيار الوطني الحر فلا يزال متردّداً في الذهاب إلى هذا الحدّ في مواجهة الحزب، معتبراً بحسب مصادر في التيار أنّ تكريس بند رفض السلاح يسقط الوثيقة ولا يعبّد طريقها للحياة لتكون منطلقاً وطنياً.
في المقابل ينطلق المطران أنطوان أبي نجم من نظريّة أن يركّز المجتمعون على البنود المشتركة بينهم في الوثيقة ويتركوا البنود الخلافية لنقاش مستمرّ. ترى مصادر في القوات اللبنانية أنّ هذه النظرية تعطي رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ورقة يستطيع عبرها ابتزاز الحزب، وتعطيه فرصة تحديد الوقت الذي يناسبه في إقرار بند سلاح الحزب من عدمه. وبالتالي فإنّ الاتّفاق يجب أن يحصل كاملاً على ما يعتبر ثوابت حول السلاح والقرارات الدولية الصادرة حول لبنان .
التحدّي، الذي يُخاض حاليّاً في الصرح، معادلته تقول: هل ينجح البطريرك الراعي في تأسيس جبهة موحّدة حول موقف سياسي واحد؟
أشارت مصادر قواتية لـ”أساس” إلى أنّه على الرغم من رفض القوات المستمرّ للقاء يجمعها بالتيار تحت سقف الصرح، إلا أنّ رئيس القوات وافق هذه المرّة على إعطاء فرصة للبطريرك لإصدار وثيقة وطنية أقلّ ما فيها المطالبة بحصر السلاح بيد الدولة. وإلّا فإنّ القوات ستنسحب رافضة التوقيع.
انطلاقاً من السقف العالي للوثيقة قرّر رئيس تيار المردة سليمان فرنجية رفض انتداب أحد عنه للمشاركة بسبب عدم موافقته على أكثر من بند مطروح فيها.
يقول المعنيون إنّ العمل على الوثيقة لم يكن يجدر به الخروج إلى العلن لأنّ الألغام فيها كثيرة. فهل يستطيع البطريرك الراعي القفز فوق الألغام وإصدار وثيقة تاريخية تشكّل سنداً للخروج من الأزمة ومواجهة نفوذ “إيران” من دون صدام داخلي مع الحزب؟ أم أزمة اليوم أكبر من بكركي اليوم؟