“لبنان ما بعد حرب غزة يشبه السؤال عن لبنان ما بعد الانتداب، ويشبه السؤال عن أيّ بلد من بلدان الأمّة العربية ودول العالم الإسلامي. السؤال الأصلي: هل نبني الدولة الحديثة أم نترك هذا الباب موصداً؟
جواب واحد موحّد عند جميع الأحزاب والقوى السياسية في لبنان، اليمينية منها واليسارية: لا للدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسّسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والحرّيات والديمقراطية. بدائلها في برامجهم جاهزة، هي الدولة الاشتراكية، دولة الوحدة العربية، الدولة الإسلامية، الوطن القومي المسيحي”. بهذا وضع المفكّر والباحث السياسي الدكتور محمد علي مقلّد الإصبع على الجرح، في مداخلته في منتدى “جنوبية”، في ندوة حملت عنوان “أيّ لبنان بعد غزة؟”، تحدّث فيها بالإضافة إلى مقلّد الدكتور علي خليفة فقدّم لها، والمدير التنفيذي لـ”ملتقى التأثير المدني”، زياد الصائغ.
سيّان قبل وبعد
خلص مقلّد إلى أنّ “لبنان ما بعد حرب غزة لا يختلف عن لبنان ما قبل غزة. لا حلّ لأزماتنا بأيّ من المشاريع الاستبدادية، لا بالاشتراكية ولا بالوحدة العربية ولا بالدولة الإسلامية ولا بالوطن القومي المسيحي. الحلّ بالدولة الديمقراطية التي تمثّلت بالتجارب الأولى بعد الاستقلال، خصوصاً في تونس ومصر وسوريا والعراق، قبل أن تطيح الانقلابات العسكرية بالبذرة الديمقرطية في أنظمتها، وفي لبنان قبل أن يطيح ممثّلو المارونية السياسية في النظام (كميل شمعون)، بمشروع الدولة الدستورية الذي كان للبطريركية المارونية الفضل الأكبر في صياغته”. وفي رأيه أنّ السؤال الذي لم يقدّم عنه إلى الآن أيّ طرف جواباً فعليّاً ومنطقياً، هو سؤال شكيب إرسلان: “لماذا تقدّم الغرب وتأخّر المسلمون؟”.
أمّا المتحدّث الثاني، الدكتور زياد الصائغ، فرأى أنّ “الصراع في لبنان سيتكرّس بين اللادولة وما بقي من الدولة”، وقال: “ثمّة من يمسك بزمام المبادرة، وحسب معاييره زمام المبادرة هو دولة اللادولة، وهنا لبنان هديّة مطواعة. لبنان يبقى في موازاة غزة همّنا الأساس، إذ حين يكون معافى سيّداً حرّاً مستقلّاً يؤدّي دبلوماسيةً فاعلةً في الشرق والغرب، وحينها فقط يخدمها بفاعلية”، ولفت إلى أنّ “ثمّة من ينسف يومياً هويّة لبنان، وهم كثر حلفاء وخصوم، كلّ بحسب تكتيك إمّا مرتهن أو قاصر، لكنّ خيار كلّ هؤلاء مستحيل الاستدامة”.
لبنان وطن معلّق، وطن مؤجّل. لبنان مشروع وطن، لا يزال حبراً على صفحات الراحلين الكبار بمختلف مشاربهم وعقائدهم وأفكارهم
حتف أيديولوجيّ حتميّ
أكّد الصائغ أنّ “إسرائيل بعد حرب غزّة، وفي متابعة لانتفاضات الرأي العام اليهودي، تسير إلى حتفٍ أيديولوجي حتمي. من يتابع سردية مراكز أبحاثها، وإعلامها، وشتاتها يستقرّ على أنَّ جوهر قيامها بالعدوانيّة بات تحت مجهر النقد، بل تحت مجهر التحوّل الاستراتيجي أيضاً. أمّا من تحالفت معهم وتحالفوا معها موضوعياً من تطرّفات، فباتوا في السياق النقدي عينه. يبقى دور الكتلة العربية وفاعليّتها، عسى تستنهِض ذاتها من بوّابة المسؤولية التاريخية أكثر منه الاستطراد في تكرار الشعارات”.
لبنان خلال حرب غزّة
على هامش المداخلتين القيّمتين، اللتين تقدّمان قراءتين مختلفتين وتساهمان في إثراء الحياة الفكرية والسياسية في لبنان في هذه المرحلة المفصلية، وتسعيان إلى خريطة طريق توصل الوطن إلى برّ الأمان، ثمّة ما يسجّله المرء بأسف وحزن شديدين.
لبنان وطن معلّق، وطن مؤجّل. لبنان مشروع وطن، لا يزال حبراً على صفحات الراحلين الكبار بمختلف مشاربهم وعقائدهم وأفكارهم. هو أشبه بتعابير الأخوين رحباني وأقرب إليها: “هون ومش هون”، “موجود ومش موجود”، “جايي ورايح”… شيء من أحلامهما، وأقرب إلى الصورة التي رسماها له، وهي غير قابلة للتحرّك أو التطوّر، لأنّها تبدو على هامش الزمن لا تمرّ به ولا يمرّ بها. عند كلّ محطة مفصلية، وكلّ حدث، يبرز الكلام عن لبنان قبل وبعد، قبل الانتداب وبعده، قبل النكبة وبعدها، قبل النكسة وبعدها، قبل الاجتياح الإسرائيلي وبعده، قبل مؤتمر مدريد ومشاريع السلام بالمفرّق وبعدهما، قبل 11 أيلول وبعده، قبل الربيع العربي وبعده… إلخ.
لست ضدّ محاولة استشراف المستقبل. والاستشراف هذا لا يكون إلا بقراءة الماضي والاعتبار من حوادثه. لكنّ الأقرب إلى المنطق، وإلى المستقبل، لمعرفة إلى أين تسير الأمور وإلى أين نمضي ويمضي لبنان، هو أن نقرأ في الأحداث القائمة، الأحداث التي تقع الآن، فهي نتيجة الماضي الذي لا يمضي في بلادنا كلّها، وهي أقرب واقعياً ومنطقياً وزمنياً إلى المستقبل، أقلّه لأنّ اللاعبين فيها، والقائمين عليها والمشاركين فيها، يُرجّح أن يستمرّوا في مهامّهم في الفترة المقبلة، أي في المستقبل القريب الذي بدوره سيكون نواة المستقبل الأبعد، والغد المرتجى، وماضي الأيام الآتية.
لبنان ما بعد غزة لن يكون نقيض لبنان خلالها، ولن يكون إلا وليداً شرعياً لما يحدث الآن وهنا وحولنا
لذا قد يكون أقرب إلى الصواب، أن يسأل الواحد منّا عن لبنان خلال حرب غزة، فربّما تتّضح له الصورة بشكل أوضح، وأقرب إلى الواقع.
لبنان ما بعد غزة لن يكون نقيض لبنان خلالها، ولن يكون إلا وليداً شرعياً لما يحدث الآن وهنا وحولنا. قرار السلم والحرب، عماد قيام الدول وانتظام المؤسّسات، الذي لطالما اتّهم لبنانيون كثر الحزب باحتكاره، ومصادرته، عبر تفريغ الدولة من مضمونها وتعطيل المؤسسات، في يد من؟ فالذي قام به الحزب، الطرف الأقوى في لبنان، والجهة المهيمنة على مفاصل السياسة فيه، ثالث اثنين، أي الحرب والسلم. فلا هو أشعل الحرب، ولا هو جنح نحو السلم. ولا شكّ هنا أنّ ما قام به عسكرياً، على طول الحدود الجنوبية للبنان، كبير كما قال أمينه العامّ حسن نصر الله. ولا شكّ أيضاً أنّه شغل الإسرائيليين وقدّم لحركة حماس وأهل غزة، مناورة في ظلّ شبه سكون عربي. لكنّ ما قام به لم يخرج من هذا الإطار، أي أنّه لم يأخذ قراراً بالحرب ولا بالسلم. فما يحدث الآن في غزة، أثبت بما لا يدعو إلى شكّ، أنّ قرار الحرب والسلم، ليس بيد الحزب، بل ليس في أيّ يد لبنانية. الإسناد والمشاغلة، مهما اتّسع حجمهما وكبر فليسا حرباً، وحتماً ليسا سلماً أو جنوحاً نحو السلم.
لبنان قبل حرب غزة كان بلا رأس، وفي أثنائها، أي في أيامنا هذه، هو بلا رأس ولا رئيس. الطرف القادر على إشعال حرب وإبرام سلم اتّضح أنّ قرارهما، أي الحرب والسلم، ليس في يده. الإقليم غائب وساكن فوق صفيح ساخن. الاقتصاد ينتظر معجزةً، أو كنزاً أسود، وهو مرتبط بالسياسة كما هي مرتبطة به. وشبه الانهيار الذي نحن فيه لا يشي بقدرة على صناعة سياسات. لذا لبنان غداً، بعد حرب غزة، لن يكون إلا لبنان اليوم، بلا رأس ولا رئيس ولا مرؤوسين، يتهادى “على قلق كأنّ الريح تحته”.