انكشفت بعد أكثر من تسعة أشهر على الفراغ في سدّة الرئاسة، الأبعاد الداخلية التي تعطِّل هذا الاستحقاق. وانكشف معها أنّ الخارجَيْن الغربي والعربي غير متّفقَين على مقاربة مشتركة، وغير قادرَين على تمرير استحقاق الانتخابات الرئاسية . وانكشف أيضاً أنّ الخارج الإيراني لم يعطِ بعد الضوء الأخضر لتمرير هذا الاستحقاق.
فهل من حلول إذا استمرّت المراوحة بين خارج، مرتبك، وداخل متصدّع أكثر من أيّ وقت مضى؟
شروط نجاح الخارج
تشهد التجربة اللبنانية منذ انطلاقة الجمهورية الأولى ومروراً بالجمهورية الثانية أنّ الأزمات الداخلية المستعصية التي تعطّل عمل النظام السياسي ومؤسّساته الدستورية، لا تجد لها حلّاً مؤقّتاً أو مستداماً من دون تدخّل الخارج. والأمثلة على هذا الواقع متعدّدة.
تشير التجربة أيضاً إلى أنّ شروط نجاح الخارج في حلّ أزمات لبنان، كانت تنعقد على مناخ التفاهم بين أقطاب هذا الخارج، وعلى توصّل أقطاب الداخل إلى قناعة بعدم قدرتهم على اجتراح أيّة تسوية من دون مساعدة الخارج، بالإضافة إلى عدم قدرة أيّ طرف على أن يفرض شروطه على الفرقاء الآخرين. وهذا ما لا يتوافر حاليّاً.
انكشفت بعد أكثر من تسعة أشهر على الفراغ في سدّة الرئاسة، الأبعاد الداخلية التي تعطِّل هذا الاستحقاق. وانكشف معها أنّ الخارجَيْن الغربي والعربي غير متّفقَين على مقاربة مشتركة
فـ”الخارج” حاليّاً منقسم بين خارج غربي أميركي – فرنسي، فيه ما يكفي من التناقضات، وخارج عربي تمثّله المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية وإمارة قطر في اللجنة الخماسية. يُضاف إليهما خارج إيراني لا يبدو حتى هذه اللحظة أنّه بوارد الإفصاح عن الثمن السياسي الذي يريده مقابل تسهيل الانتخابات الرئاسية.
أمّا المملكة فإنّ المؤشّرات كافّة تدلّ على أنّها ما تزال على مواقفها السابقة في أخذ مسافة من هذا الاستحقاق.
الموقف القطَريّ الذي يحاول إحداث اختراق معيّن لدى جبران باسيل، ما زال يدور في حلقة مفرغة، الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد أنّ باسيل ما يزال يراهن ضمنيّاً على تسويةٍ ما مع الحزب. وما يمكن تأكيده أنّ المملكة تراقب المسار الذي تأخذه المبادرة الفرنسية الغارقة في وحول الداخل اللبناني، وفي تعقيدات الخارج.
مأزق المبادرة الفرنسيّة
الطموحات التي عقدها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على دوره في لبنان منذ انفجار الرابع من آب 2020، لم تكن تتوافق مع قدرات إدارته، ولم تكن مدروسة كفاية لجهة فهم تعقيدات ورهانات أطراف الساحة المسيحية التي بدت في لحظة معيّنة متمرّدة على خياره الرئاسي.
كان الهدف من الرهانات التي عقدها ماكرون على تمرير تسوية الثنائي سليمان فرنجية – نواف سلام تأكيد دور فرنسا المحوري في حلّ أزمات لبنان، وذلك باستقلال نسبيّ عن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وتحقيق مصالح اقتصادية في إفريقيا وفي الأسواق الإيرانية.
باءت كلّ هذه الرهانات بالفشل، ويواجه ماكرون اليوم في الملفّ الرئاسي اللبناني ثلاث معضلات:
1- تراجع الثقة المسيحية بإدارته وخياراته، وخوف درزيّ وسنّيّ من اندفاعة الإليزيه وراء الحزب، الأمر الذي قاد ماكرون إلى مقاربة جديدة، بعدما سمع من البطريرك الراعي كلاماً واضحاً بأنّ “المسيحيين لا يقبلون بأن يُفرض عليهم رئيس جمهورية”.
2- الأفق المسدود لمبادرته والقدرة المحدودة على إنجاز هذا الملفّ، بمعزل عن دور سعودي – أميركي وإيراني مباشر.
3- المسافة التي قطعها الحوار الأميركي – الإيراني المباشر في عُمان، وبالتأكيد، إذا ما نجح هذا الحوار، فسيفتح الطريق نحو كلام أميركي – إيراني مباشر في ملفّ الرئاسة.
إذاً ماذا سيكون انعكاس ذلك على المبادرة الفرنسية؟
وهل يستبق ماكرون نتائج هذا الحوار بتوسيع مروحة التشاور مع الحلفاء؟
سيرتكب الفرنسيون خطأً كبيراً إذا سوّقوا لمسار التفاوض على تغيير النظام بهدف التوصّل إلى صيغة جديدة. فقد كانت كبيرةً كلفةُ التوصّل إلى اتفاق الطائف، في الأعوام والدماء والخراب، ومن المستحيل حاليّاً توفير مناخ داخلي أو عربي أو دولي
الداخل المستعصي على الحلول
يعتقد المنظّرون للأنظمة التوافقية بدور مفصليّ للنخبة السياسية التي تدير هذه الأنظمة، وبأهمية تكوين قناعة راسخة لديها بأهميّة الحوار وانعقاد التسويات.
بالطبع لا ينطبق هذا الواقع على غالبيّة “النخبة السياسية” الحالية، التي لا تمتلك ثقافة التسوية، ولا الإرادة أو القدرة على إدارة الاختلاف وإيجاد الحلول للمشاكل القائمة.
فقد سجّلت هذه “النخبة” عجزها عن التفاهم على انتخاب رئيس للبلاد يعيد الانتظام لعمل المؤسّسات الدستورية، وسجّلت عدم التجاوب مع الدعوات إلى حوار داخلي – داخلي.
كذلك قاومت الضغوط الداخلية والخارجية كافّة للقيام بالإصلاحات المطلوبة للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية الحادّة.
بالتأكيد لا يتوقّف الانسداد السياسي الحالي فقط على هذا الواقع، بل ثمّة ثلاثة عوامل تشكّل عمق الأزمة السياسية الحالية مع الاختلاف بحجم تأثير كلّ منها على أزمة انتخاب الرئيس:
1- تحوُّل الحزب إلى مكوّن رئيسي في مشروع سياسي إقليمي يتجاوز الدولة ومؤسّساتها ومصالحها العليا.
2- أزمة تراجع دور المكوّن السنّيّ، الذي أحدث خللاً كبيراً في التوازن الوطني، لا بل كسر هذا التوازن بطريقة غير مسبوقة منذ قيام لبنان الكبير.
3- فقدان الثقة بين المكوّنات السياسية المارونية، واشتداد الصراع على مصراعيه حول الرئاسة والنفوذ. وتشهد الساحة المسيحية تطوّراً غير مسبوق. إذ إنّ بكركي التي “أُعطي لها مجد لبنان” لم تتمكّن، على الرغم من كلّ المحاولات التي قام بها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، من جمع زعماء الموارنة إلى طاولة حوار مسيحي – مسيحي.
في مواجهة هذا الانسداد الماروني – الماروني، وتعنّت الحزب الذي يرفض التفاوض إلا على مرشّحه سليمان فرنجية، يدعو البطريرك الماروني إلى مؤتمر دولي لإعلان حياد لبنان وحلّ أزمته القائمة.
بانتظار نتائج المفاوضات الأميركية – الإيرانية وتَلَمُّس السعوديين جاهزيّة الإيرانيين للتحدّث جدّياً في الملفّ الرئاسي ، ستبقى المبادرة الفرنسية قائمة لكن من دون نتائج عملية تفتح الطريق لانتخاب الرئيس.
تبدأ شروط نجاح هذه المبادرة بانخراط الشركاء الإقليميين بجدّية، واقتناع القيادات اللبنانية باستحالة أن يفرض أيّ فريق خياره على الشركاء الآخرين، وهذا ما لا يتوافر حتى الآن.
سيرتكب الفرنسيون خطأً كبيراً إذا سوّقوا لمسار التفاوض على تغيير النظام بهدف التوصّل إلى صيغة جديدة. فقد كانت كبيرةً كلفةُ التوصّل إلى اتفاق الطائف، في الأعوام والدماء والخراب، ومن المستحيل حاليّاً توفير مناخ داخلي أو عربي أو دولي، وخصوصاً أميركي – فاتيكاني، يقبل بأيّة تعديلات في صيغة التوازنات التي نصّ عليها هذا الاتفاق.
يشبه بحثُ صيغةٍ جديدةٍ في هذا الوقت، اللعبَ بالنار الملتهبة. فهل تستفيد إدارة ماكرون من الأخطاء المتراكمة ، وتسير في مقاربة الحوار من أجل انتخاب رئيس توافقي مع خارطة طريق واضحة للأولويّات؟
لننتظر عودة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان قريباً إلى لبنان كي نتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.