تراجعت في المدن الفرنسيّة حدّة العنف الذي اندلع إثر وفاة الشابّ نائل برصاص الشرطة. خمس ليالٍ كانت قاسيّة. العنف كان غير مسبوق من حيث كثافته وحجمه. الخسائر خلال خمسة أيّام فاقت تلك التي نتجت عن احتجاجات 2005 والتي استمرّت ثلاثة أسابيع، متجاوزةً مليار يورو، بحسب رئيس نقابة أرباب العمل. وبرز فيها، إضافة إلى الحرق والتكسير والنهب، الاعتداء على رؤساء البلديات جسديّاً وعلى ممتلكاتهم ومنازلهم.
أسباب توقّف الاحتجاجات
عدّة أسباب يُرجّح أنّها كانت وراء توقّف الاحتجاجات بهذه السرعة:
1- تخطّي العنف كلّ الخطوط الحمر مؤدّياً إلى تأليب الرأي العامّ الفرنسي على المحتجّين بعدما كان في البداية متعاطفاً معهم ومتفهّماً لغضبهم بسبب وفاة الشابّ نائل.
2- اضطلاع الأهل بدورهم في ضبط أبنائهم دون السنّ القانونيّة ومنعهم من ممارسة أعمال العنف بعد تلويح السلطات بتحميلهم مسؤولية تصرّفات أبنائهم واتّخاذ تدابير بحقّهم.
3- مواجهة الحكومة عنف الاحتجاجات بحزم، وتجنيدها ما يزيد على 45 ألف شرطي في مقدّمهم فرقتا “RAID” و”GIGN” المتخصّصتان بمكافحة الإرهاب والعصابات. هذا إضافة إلى الاستدعاءات القضائية، التي تخطّى عددها 2,000، وتوجيه التهم إلى عدد كبير من المستدعَين وتوقيفهم، وتحويلهم إلى المحاكم المختصّة.
4- ربّما أثّر نداء جدّة نائل في نفوس المحتجّين، بخاصّة في مدينته نانتير. فهي طالبتهم بوقف أعمال العنف على اختلافها.
تراجعت في المدن الفرنسيّة حدّة العنف الذي اندلع إثر وفاة الشابّ نائل برصاص الشرطة. خمس ليالٍ كانت قاسيّة. العنف كان غير مسبوق من حيث كثافته وحجمه
قضايا شائكة
لا تعني نهاية الاحتجاجات أبداً نهاية الأسباب التي كانت وراءها. فقد أعادت خمس ليالٍ من الاحتجاجات العنيفة تظهير عدّة قضايا قديمة وشائكة في فرنسا. نتطرّق إلى خمس منها، مع حرصنا على عدم التعميم على الأشخاص ولا على الجماعات ولا على المناطق:
1- قضية الضواحي والأوضاع الاجتماعيّة فيها: قضية قديمة تعود إلى مرحلة إعادة بناء الاقتصاد الفرنسيّ بعد الحرب العالميّة الثانية. وهي مرحلة امتدّت ثلاثة عقود تُعرف في فرنسا، وفي أوروبا عامّة، بـ “السنوات المجيدة” (années glorieuses). كانت فرنسا بحاجة إلى اليد العاملة. شجّعت الهجرة إليها، بخاصّة من إفريقيا. أقام المهاجرون الجدد في ضواحي المدن الكبرى بالقرب من المصانع. لم يكن في الضواحي بنى تحتيّة كما في المدن. فخلق هذا واقعاً من عدم المساواة بين سكّان المدينة وسكّان الضواحي ولا يزال. ويعود الكلام عنه في كلّ أزمة احتجاجات تنطلق من الضواحي. وما لم تُسوَّ هذه المسألة سيبقى سكّان الضواحي “قنابل” موقوتة تنفجر عنفاً في الاحتجاجات، سواء كانت مطلبيّة أم ضدّ عنصريّة أم ردّ فعل على مقتل أحد شبابهم.
2- وصول المهاجرين بأعداد كبيرة وتجمّعهم في الضواحي: التي تحوّلت إلى “غيتوات” عرقية أو دينيّة. وهو أمر لم يساعد في اندماج هؤلاء كليّاً في المجتمع الفرنسيّ. ففي كندا مثلاً، وهي من أبرز البلدان التي تستقبل المهاجرين، تعمد الحكومة هناك إلى تحديد عدد المهاجرين سنويّاً. والسبب أنّها تعمل على دمجهم في المجتمع الكنديّ المركّب من عدّة جنسيّات. وتعمل مراكز الأبحاث على مسائل الاندماج والمثاقفة واحترام الآخر المختلِف في العرق واللون والدين واللغة… إلى ما هنالك من موضوعات هدفها خلق مجتمع واحد. وتدرَّس هذه الموضوعات في الجامعات. أمّا فرنسا فتفتقر إلى مثل هذه السياسات لدمج مَن هم من أصول غير فرنسيّة في المجتمع الفرنسيّ.
3- قضيّة الإسلام: فرنسا بلد علمانيّ (بحسب القانون 1905). الفصل تامّ بين الدين والدولة، على الرغم من أنّ الخلفيّة الثقافية والذاكرة التاريخيّة للبلاد مسيحيّة. التمسّك بعلمانية الدولة، وخلفيّتها الثقافية المسيحيّة، وقبول المسلمين، على مضض، الفصل بين الدين والدولة (لأنّه ليس في تعاليم الإسلام)، كلّ هذه العوامل ساهمت في بروز إشكالية الإسلام في فرنسا. وقد تظهّرت في مسألة الحجاب في المدرسة في 2004، و”اللباس الذي يغطّي الوجه” في 2010، والبوركيني (لباس المرأة المحجّبة) في المسابح في 2022. وما زاد في تعقيد هذه الإشكالية في العقود الأخيرة
هي “الإسلاموفوبيا” التي برزت مع تصاعد حضور التيّارات الإسلامية المتطرّفة وقيامها بأعمال إرهابية في فرنسا والعالم، والحروب الأميركيّة (بالتحالف مع الغرب) ضدّ هذه التيّارات.
لا تعني نهاية الاحتجاجات أبداً نهاية الأسباب التي كانت وراءها. فقد أعادت خمس ليالٍ من الاحتجاجات العنيفة تظهير عدّة قضايا قديمة وشائكة في فرنسا
الجزائريون والعنصرية
1- قضيّة الفرنسيّين من أصول جزائرية: ما زالت عالقة في المجتمع الفرنسيّ وبين فرنسا والجزائر. وهي قضيّة سببها ضمّ فرنسا للجزائر بعد احتلالها (1830) وقيام “ثورة المليون شهيد” الجزائرية التي نجحت في الحصول على استقلال الجزائر (1962). غالبية الفرنسيين من أصول شمال إفريقيّة، عرباً وبربراً، هم جزائريون، بخاصّة في مدينة مرسيليا في جنوب البلاد. اقترح ماكرون، خلال زيارته الأخيرة للجزائر، تنقية الذاكرة التاريخيّة بين البلدين من خلال لجنة من المؤرّخين من كلا البلدين. ولكن يبدو أنّ الجزائريّين ليسوا جاهزين بعد.
2- قضيّة العنصريّة: يعرف المجتمع الفرنسيّ أنّه عنصريّ ربّما أكثر من بعض المجتمعات الأوروبيّة. وهذا ليس بالغريب لأنّ فرنسا، منذ نشوء الدولة – الأمّة (Etat-Nation)، تشكّل رمزاً للأمّة في الدولة. تبرز هذه العنصريّة في المؤسّسات العامّة كما في المؤسّسات الخاصّة. خلال أيام الاحتجاجات كثر الكلام عن عنصريّة أفراد الشرطة. وشبّهها البعض بعنصريّة الشرطة الأميركيّة تجاه السود.
بعض الخطوات والتصريحات خلال الاحتجاجات “لا تساهم في التهدئة”، كما قالت رئيسة الوزراء إليزابيت بورن. منها مثلاً حملة التبرّعات التي أطلقها أحد اليمينيّين المتطرّفين لدعم عائلة الشرطي الذي أطلق النار، مقابل الحملة التي أُطلقت لجمع التبرّعات لوالدة نائل. ودعا بعض السياسيين إلى وقف المساعدات عن الأهل الذين يتورّط أبناؤهم (دون السنّ القانونيّة) في أعمال عنف. وربّما في خطوة لاحقة سيطالبون بنزع الجنسية منهم!
تراجعت الاحتجاجات. توقّف العنف. ولكن يبدو أنّ فرنسا ذاهبة إلى مزيد من الانقسامات في المجتمع وإلى جولات أخرى من العنف عند كلّ احتجاج.