لا صوت يعلو فوق صوت المعركة في هذه الأيام. ولا مفاوضات ستنطلق قبل أن توقف إسرائيل عدوانها على قطاع غزّة وأهله وأطفاله.
تتركّز كلّ الجهود الدبلوماسية العربية انطلاقاً من الرسالة التي أوصلتها المملكة العربية السعودية إلى وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنتوني بلينكن الذي زارها في الساعات الأخيرة، وهي تتمحور حول ثلاث نقاط:
أوّلاً: وقف إطلاق النار فوراً في غزّة.
ثانياً: رفض قاطع لتهجير أهل القطاع إلى رفح وبعدها إلى سيناء.
ثالثاً: فتح المعابر لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
قبل ذلك يدور الكلام في المنطقة حول استمرار الاشتباك وإمكانية توسّعه، تماماً كما قال وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان.
تزامناً مع هذا السباق بين وقف العدوان وإمكانية توسّع رقعة الحرب، أعلنت الرئاسة المصرية الدعوة إلى مؤتمر إقليمي دولي لبحث الأوضاع في غزّة ولبحث مستقبل القضية الفلسطينية.
من الصين إلى أميركا ومصر…
وصلت زحمة الوفود الدبلوماسية في المنطقة إلى ذروتها كأنّ العالم على مفترض طرق خطير انطلاقاً من هذه القضية: من الولايات المتحدة الأميركية، مروراً بعواصم الدول الكبرى، التي توجّهت أنظارها إلى فلسطين وإسرائيل.
ليست جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الوحيدة في المنطقة، بل وصلت الجهود الدبلوماسية المبذولة إلى حدّ تدخّل الصين، إذ تعتزم بكين القيام بوساطة لتهدئة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وترتيب عقد مؤتمر دولي يعيد إحياء مفاوضات السلام، وسط آمال معلّقة على قبول وساطتها نتيجة “توازن موقفها” من طرفَي الأزمة، كما تقول، على أن يصل المبعوث الخاص للحكومة الصينية إلى الشرق الأوسط، تشاي جون، الأسبوع المقبل إلى المنطقة، على ما قال لوسائل إعلام صينية.
كشف مصدر سعودي غير رسمي أنّ “الدبلوماسية السعودية نجحت في الضغط على واشنطن في الشروط التي وضعتها، فذهب البيت الأبيض إلى تعيين ديفيد ساترفيلد مبعوثاً أميركياً خاصاً للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط
جولة بلينكن في المنطقة تواكبها أيضاً جولة لنظيرته الفرنسية كاثرين كولونا على الدول المجاورة لفلسطين. وهي استهلّت كلامها بالترحيب بدعوة الرئاسة المصرية إلى مؤتمر لبحث مصير القضية الفلسطينية. وكانت مصر السدّ المنيع في وجه مخطّط تهجير الفلسطينيين من غزّة إليها، وأطلقت دعوة إلى مؤتمر إقليمي ودولي.
فهل يكون هذا المؤتمر وهذه الأحداث مقدّمة لفرصة تاريخية يعيد العرب والفلسطينيون من خلالها محاولة الوصول إلى حلّ عادل وشامل لقضية فلسطين؟ أو تنهار الجهود الدبلوماسية وتشهد المنطقة أعنف حروبها على الإطلاق، خصوصاً أنّ المواجهة لن تقتصر هذه المرّة على جبهة أو اثنتين، بل ستدخل المنطقة كلّها في حرب إقليمية ودولية، لا تبدأ بالبوارج الأميركية والقوة البريطانية الآتية، ولا تنتهي بالأحزاب والحركات المسلحة من لبنان وسوريا والعراق إلى اليمن، وربّما تؤدّي إلى تدخّل إيران نفسها؟
شروط المملكة السعوديّة وثوابتها
تحدّثت مصادر سعودية غير رسمية لـ”أساس” عن شروط المملكة الثلاثة في المرحلة الأولى من الحلّ، فاعتبرت أنّ صمود الشعب الفلسطيني سيضع المجتمع الدولي وفي مقدَّمه أميركا وإسرائيل أمام الاعتراف بصوابية ما طرحته المملكة من مبادرة “حلّ الدولتين”، لكن بشرط أن يتمتّع الفلسطينيون بسيادة في دولتهم وبحقوقهم الكاملة.
لكن من سيفاوض في الحصول على دولة فلسطينية في ظلّ الصراع “الأهلي” على السلطة هناك؟ ما هي حدود الدولة الفلسطينية المفترضة في ظلّ محاولات تهجير أهل القطاع إلى مصر وأهل الضفّة إلى الأردن لتصفية القضية الفلسطينية؟ وأيّ مستقبل للمنطقة في حال تصفية القضية؟ ولماذا على المحور المنتصر في هذه العملية تحديداً، أي محور “حماس” وحلفائها، أن يتنازل وهو في جهوزية كاملة للحرب؟
تُطرح كلّ هذه الإشكاليات في النقاش في حلّ عادل وشامل للقضية.
لكن سُجّل تقاطع مهمّ بين السعودية وإيران في الأيام الأخيرة. ففي حين قطع وليّ العهد السعودي مسار التطبيع حتى إشعار آخر، دعا وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى وقف العدوان على غزّة “وإلّا فخيارات الحرب واردة”.
كشف مصدر سعودي غير رسمي أنّ “الدبلوماسية السعودية نجحت في الضغط على واشنطن في الشروط التي وضعتها، فذهب البيت الأبيض إلى تعيين ديفيد ساترفيلد مبعوثاً أميركياً خاصاً للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط، مع ضغطها لفتح المعابر لدخول المساعدات الإنسانية إلى غزّة مقابل خروج عدد من الأجانب العالقين هناك”. وفي هذا تغيير لما جاء بلينكن يحمله، من حديث عن تهجير أهل غزّة واستسلام “حماس”… أو القضاء عليها.
تتقاطع مصادر سياسية في أحاديث لـ”أساس” على أنّه بعد الانتهاء من مرحلة التفاوض الأولى على تبادل الأسرى ورفع الحصار، لا بدّ من إعادة تكوين السلطة في فلسطين
أيّ سلطة فلسطينيّة ستفاوض؟
تتقاطع مصادر سياسية في أحاديث لـ”أساس” على أنّه بعد الانتهاء من مرحلة التفاوض الأولى على تبادل الأسرى ورفع الحصار، لا بدّ من إعادة تكوين السلطة في فلسطين. فحصر التمثيل الفلسطيني بالسلطة الفلسطينية المتمثّلة بالرئيس محمود عباس “أبي مازن”، الذي بدا في نصّ القرارات الصادرة عن اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، يقابله الإنجاز العسكري المتفوّق لحركة حماس. فإذا كان الطرح يقضي بتصفية “حماس” يبدو أنّه سيكون صعباً تمريره. فكيف سيضحّي المحور بحركة حماس؟ ولماذا؟ وإلّا فسيكون الطرح الأمثل ردّاً على قول الرئيس محمود عباس إنّ “حماس” لا تمثّل الشعب الفلسطيني (الذي سحبه واستبدله بأنّ “منظمة التحرير تمثّل الشعب الفلسطيني”)، هو إعادة تشكيل حكومة تمثّل قرار فلسطين في أيّ مؤتمر أو مفاوضات سلام.
أمّا رئيس حكومة الحرب في إسرائيل بنيامين نتانياهو، فيخوض “معركة البقاء” الشخصية لحياته السياسية، لأنّه في عُرْف مجتمعه المحلّي والدولي “قد انتهى”. فهل يبالغ في ارتكاب المجازر بحثاً عن استعادة شرعيّته فاتحاً أبواب الجحيم على المنطقة؟ أم نذهب إلى بحث جدّي لمستقبل القضية كما طرحت القاهرة في الساعات الأخيرة؟
من ناحيته، انضمّ لبنان، الواقع في قلب المعادلات الإقليمية والدولية انطلاقاً من جبهته الجنوبية، إلى الإجماع العربي من خلال رفض رئيس مجلس النواب نبيه برّي تهجير الفلسطينيين “لأنّ في ذلك مشروعاً تقسيمياً للمنطقة وتهديداً للأمن القومي العربي”. في حين أنّ قرار الحرب والسلم متروك في غموض مقصود بانتظار الجولات والصولات الدبلوماسية، فعساها توقف المجزرة في غزّة المحاصَرة.
لا حدود للحرب متى حصلت
يقول مصدر دبلوماسي لبناني لـ”أساس” إنّ المنطقة مقبلة على خيارين:
– إمّا تسوية كبرى.
– أو حرب كبرى.
وقد وصلت رسائل أميركية بالجملة إلى إيران والحزب بضرورة عدم فتح جبهة الجنوب اللبناني “لأنّ أيّ حرب مقبلة لن تكون شبيهة بحرب عام 2006، بل ستكون حرباً كبرى أكثر تدميراً”.
على الرغم من قدرة محور إيران والحزب على تسديد ضربة موجعة إلى إسرائيل، استبقت بوارج الطائرات الحربية الأميركية الكلام عن موازين قوى عسكرية، مع إعلان الولايات المتحدة الأميركية استعدادها لمساندة إسرائيل في أيّ حرب عسكرية تخوضها في المنطقة. وبالتالي ستكون الحرب المقبلة حرب تصفية الحسابات العالقة مع إيران والحزب.
فهل يغامر نتانياهو، بالتزامن مع هذا الجهد الدبلوماسي الضخم، باجتياح برّي للقطاع مستغلّاً الدعم الدولي له في وجه حركة حماس “الإرهابية ” في تصنيف الغرب؟ أم ينتبه إلى أنّ مغالاته في الردّ العسكري غير الإنساني ستنهي أيّ أفق للتطبيع؟
يملك نتانياهو الآن مفاتيح الحرب ومفاتيح السلام، وكلّ الموفدين يدركون هذه الخلاصة.