الرئيسيةمقالات سياسيةعن تهافت الحلّ “الفدرالي الثقافي”

عن تهافت الحلّ “الفدرالي الثقافي”

Published on

spot_img

«فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

لا تحظر العفو إن كنت امرأ حرجاً

فإنّ حظركه في الدين إزراء»

(أبو نواس)

قد يكون ما يلي خارجاً عن السياق الذي أخذته مقالاتي مؤخراً بالتركيز على الحدث الإقليمي الغزاوي، لكن الأزمات الكبرى تعيد دائماً الحديث عن حلول انتحارية على أساس أنّ الحلول الأخرى فشلت. من ضمن تلك الحلول المطروحة ما سمي «الفدرالية الثقافية».

في المقاربات الشعبية العفوية للأمور تظهر مسألة الأمثال كوسيلة لطرح النصائح، بالرغم من أنّ تلك الأمثال تواجهها عادة أمثال تعاكس مغزاها وتنفيه، مع أنّ تلك الأمثال المتعاكسة قد تنسب أحياناً إلى «الحكيم» ذاته، قد يكون الجد أو زعيم العشيرة أو شخصية ما ذات بعد تاريخي ديني ثقافي أو اجتماعي، هذا مع أنه لا يوجد أي دليل مثبت لتأكيد انتساب المثل لشخصية محددة، مع العلم بأنّ معظم الأقوال المأثورة تنسب إلى عدة شخصيات. الحلول الشعبية الأخرى تأتي من خلال جعل الاستثناء قاعدة، أي أن يصبح حدث ما، يأتي خارج سياق المنطق العلمي والعملي، قاعدة دائمة يؤمل أن تتكرر؟

المنطق الشعبي الآخر يأتي من تاريخانية حدث ما يعتبره البعض أنه قاعدة دائمة للتكرار، بغض النظر عن المتغيّرات الكبرى التي تجعل من تكرار الحدث المعين شبه مستحيل. لكن المثل والفكر الشعبي يبقى أقوى من العلم والتاريخ الموثق والدراسات المعمقة، ويتضاعف تأثيره عند الأزمات المستعصية على الحلول العقلية والعلمية.

من هنا، وفي ظل استعصاء الحلول للمعضلات الرابضة على صدورنا، عادت الأفكار «الخلاقة» للبحث عن حلول تستند إلى أمثلة سويسرية أو بلجيكية أو إماراتية أو أميركية، مزينة بخطاب هادئ ورزين و»علمي»، ومدعومة بشكل كثيف من البروباغندا الإعلامية المكلفة، ومستندة إلى رأي عام شعبوي ينادي بالطلاق بين المكونات الطائفية اللبنانية، طالما أنّ الزواج فشل بين تلك الشعوب المحشورة في مكان ضيق بالأساس، وبأنّ التجربة التي فرضها الفرنسيون لعيون البطريرك الحويك استنفدها التاريخ، أو ربما كانت بالأساس غير صالحة للتطبيق.

لن أسعى للجدال حول تلك الفرضيات الشعبوية من دون طائل، فمن هو مأخوذ بفكرتها لن يسمع أو يفهم أي نقاش حولها، فيتحول الجدل إلى اتهامات بالطائفية والداعشية، ويستخرج ملف لعبة الكلة التي تسببت بمجازر الجبل منذ أكثر من قرن ونصف، ومن ثم الناصرية والعرفاتية والأسدية وحرب الجبل والتهجير واللجوء السوري وداعش والنصرة، لتدخل في خلطة الفتوش اللبنانية أو البايلا الإسبانية.

سأركز فقط على طرح «الفدرالية الثقافية» كونه التعبير الملطف كبديل عن «فدرالية الطوائف». ويستعيض المروجون لهذه الفكرة بالتعبير الثقافي بدل الطائفي، أولًا لأننا فعلاً نعيش في فدرالية الطوائف بأساس مواثيقنا الوطنية مما يعني أنهم إن استعملوا الطوائف فهم لا يطرحون جديداً، وثانياً لأنّ تعبير «ثقافية» أكثر أناقة على السمع من الحديث المستهلك عن الطوائف.

المعضلة تأتي في توصيف ما هي الفدرالية الثقافية، خاصة لأنّ مطلقيها يستندون إلى القيد الطائفي للإشارة إلى حدود الوحدات الفدرالية، بغض النظر عن التشريح الثقافي لتلك الوحدات. أي أنّ صفصفة المناطق في فرع فدرالي يأتي على أساس الأكثرية المنصوص عنها في القيد الطائفي فقط لا غير ومن دون البحث في محتوى الفروقات الثقافية. وحتى لا يكون رفض الفكرة على عماها، أي من دون بحث وتمحيص في جدواها، نرى أنّ المكونات الأساسية لثقافة مجموعة من الناس تتضمن جملة من العناوين يمكن اختصارها باللغة المحكية كركن أساسي للثقافة، والدين ويشمل المعتقدات والشعائر والممارسات المرتبطة بها، والعادات والتقاليد، والفنون والجماليات، والمطبخ ونوعيات الطعام، والملبس والموضة، والبنية الاجتماعية والأسرية، والتاريخ والتاريخانية، والرمزيات والشعارات، والقيم والقواعد الأخلاقية، والمستوى العلمي والمعرفي، والتكنولوجيا والحداثة، والرياضة ووسائل الترفيه، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمحرمات والأعراف، وأخيرًا البيئة المناخية والجغرافية.

لكن الأهم هو أنّ تلك العناصر تتشابك مع بعضها بشكل دينامي وتتغير وتتطور لتتلاءم مع الظروف والحقبات التاريخية والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لذلك تبرز ضرورة فهم تلك المكونات وكيفية ترابطها وتشابكها مع بعضها وتلاقحها من بعضها مما يؤكد أهمية التعددية والتنوع في إغناء وتنمية الثقافات العديدة من خلال الاحتكاك اليومي والمصلحي.

هذه الجملة من المعطيات تؤكد أن الدين ما هو إلا واحد من عدة مكونات ثقافية، لكن المعضلة تكمن في أن عنصر الدين قد يأخذ بعداً ثانوياً أو أساسياً في المكون الثقافي الفردي، وقد يكون غير موجود عند البعض، وأحياناً عند جزء كبير من المحسوبين افتراضياً على دين معين. لنأخذ مثلًا مسألة الصلاة أو الصيام، على أي دين يحسب حينها من لا يمارسهما؟ أو ما هو دين من يمارسهما فقط كعادة اجتماعية، ويشارك أيضاً آخرين من أديان أخرى بعض العادات؟ أما عن شرب الكحول، وهو ما يتردد دائماً كحجة لدعاة «الفدرالية الثقافية»، فلو حسبنا شاربي الكحول على طائفة واحدة لتضاعف حجمها لكثرة شاربي الكحول، أو حسبنا من لا يشربون الكحول لأسباب شخصية، فعلى أي دين يحسبون؟

كذلك يمكن الحديث على الملبس والمأكل والزواج المدني… في مسائل تختلط الأمور فيها بحيث يتضاءل البعد الثقافي الديني لتظهر طائفة جديدة بثقافة متلاقحة في كل شيء، بغثها وثمينها، من التذاكي المفرط إلى الهبل المتمادي، من الثقافة الواسعة وسع الكون إلى التفاهة المنغلقة على الذات، ومن قمة النزاهة إلى قعر الفساد. كلها ثقافات مشتركة بين لبنانيين من أديان شتى ومذاهب لا حصر لها. فكيف لفدراليي الثقافة أن يرسموا الحدود الجغرافية لكل هذا. فهذه الحدود ستمر حتماً على جسد كل واحد منا، يحمل في حناياه بعضاً من كل!

أحدث المقالات

جنوب الحرب وشمال النازحين والدرّاجات.. تلغي”الدولة الوطنيّة”؟

كان المشهد في لبنان يوم الجمعة الماضي معبّراً جدّاً عن صورة البلد وإشكاليّاته، أو...

كيف سينعكس غياب رئيسي وعبد اللهيان على لبنان؟

بدأت التساؤلات تتوالى بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين عبد الأمير...

سباق التفاوض الإقليمي: “الثنائي الشيعي” للفوز بلبنان والرئاسة؟

أحداث من التاريخ يمكنها أن تتشابه أو أن تتكرر، وإن بسياقات وظروف مختلفة. أواخر...

الزيارة الأولى منذ اتفاق الدوحة… ما وصيّة جنبلاط من قطر؟

للمرة الأولى له منذ أيار 2008، يوم استضافت قطر القادة اللبنانيين وإعلان اتفاق الدوحة،...

المزيد من هذه الأخبار

قطر من “استوكهولم”: سلام شامل أو حرب أوسع..

تاريخ طويل من التفاوض الدبلوماسي بين القوى المحلّية والعالمية أعطى قطر القدرة على المراوغة...

هل تُطرَد غادة عون من القضاء؟

مع تحديد موعد لمثول النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون أمس...

سياسيّو لبنان: “الأطفال الذين يلعبون بالرمل”؟

يرسم بعض المهتمّين الأجانب بأزمات لبنان صورة غير متفائلة جرّاء استمرار ربط الحلول فيه...

“الخُماسية” تُطلق مساراً رئاسياً حتى تموز: مشاورات أو عقوبات

ما تضمّنه بيان اللجنة الخماسية بعد اجتماعها أول من أمس في السفارة الأميركية، أحدث...

مهلة حزيران للحــزب: الرئاسة… أو نتنياهو

تعدّدت المهل التي أُعطيت لإنجاز الاستحقاق الرئاسي من دون أن تَصدُق أيّ منها. إلا...

“اليوم التالي” في غــزة ولبنان: الحرب اقتراح إسرائيل الوحيد

على دوي الحرب وهديرها، تتعدد مسارات البحث عن ما يسمى بـ”اليوم التالي” لغزة، وهو...

ماذا فعل “حــزب الله” في ملف النزوح؟

في 2 تشرين الأول 2023 تناول الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ملف...

“الخماسية” في عوكر: “صيانة” دوريّة للحلّ

انعقد أمس الاجتماع الخامس للّجنة الخماسية المُمثّلة لواشنطن وباريس والدوحة والرياض ومصر في مقرّ...

صمود الحزب وحماس و”انتصارهما”: معركة نهاية الحروب في المنطقة؟

قاعدة “الحرب سجال” و”الأيام دول”، هي التي يعتمدها حزب الله وحركة حماس في المواجهة...

إنتقاد “المجتمع الدولي”… لتغييب إيران عنه؟

قد يكون انتقاد المجتمع الدولي والحملة على مواقفه، سواء في ما يخصّ عبء النازحين...

تعقيدات المفاوضات الحدودية: الطلعات والإعمار والتنقيب

لا كلام جدياً في الرئاسة. يستعيد سفراء اللجنة الخماسية حراكهم من خلال اجتماع تستضيفه...

الجيش بين باسيل و السيّد!

استبق الأمين العامّ للحزب السيّد حسن نصرالله جلسة التوصيات النيابية اليوم في شأن هبة...

نصرالله “المنتصر”: وصيّ على مستقبل لبنان وسوريا ولاجئيها

يستعجل حزب الله إعلان انتصاراته. لا يريد لها أن تقتصر على لبنان فقط، بل...

وثيقة بكركي: إيجابية بو نجم لا تُبدّد الصعاب

ستعلن بكركي وثيقتها التي حملت عنوان «المسيحيون في لبنان إلى أين؟» في غضون أسبوع...

عين الخارج على هويّة الرئيس قبل الحدود

كلٌّ عالق في مأزقه الخاصّ. جو بايدن عالق في استحقاقه الرئاسي. بنيامين نتنياهو عالق...