مرّ أكثر من أسبوع على إصدار المحكمة العسكرية أحكاماً بحقّ المتّهمين بأحداث خلدة، التي وقعت بين عرب المنطقة ومناصرين للحزب في عام 2021. وما زالت المفاوضات والوساطات “شغّالة” ليلاً ونهاراً للملمة الأوضاع ووأد الفتنة، وذلك لأنّ الأهالي اعتبروا هذه الأحكام “جائرة وظالمة” بحقّهم، باعتبار أنّهم كانوا في موقع الدفاع عن النفس، وأنّ الأحكام جاءت قاسية بحقّ طرف واحد من دون توقيف شخص واحد من الحزب.
علم “أساس” أنّ الأجواء حالياً مستقرّة استقرار الجمر تحت الرماد في انتظار ما ستؤول إليه المفاوضات خلال الأيام المقبلة، أي خلال المهلة القانونية لتمييز الأحكام لدى محكمة التمييز العسكرية، لإعادة النظر بالأحكام، والحصول على أحكام عادلة، أو يكون “المحظور” هو البديل في حال وصلت هذه الوساطات إلى طريق مسدود.
إزاء هذا الواقع تبرز الأسئلة التالية:
– ما هو موقف العشائر العربية في خلدة من هذه الأحكام؟
– ما هو دور دار الفتوى؟
– ما هي الخطوة المقبلة على الصعيد الاجتماعي، الديني، القانوني، والسياسي؟
– هل من خفايا أوصلت المصالحة إلى طريق مسدود في هذه القضية؟
من بين 26 موقوفاً في أحداث خلدة خرج 17 من السجن: 11 براءة، و6 اكتفاء بمدّة السجن الماضية، وبقي 8 موقوفين حُكموا بين 5 و10 سنوات
دار الفتوى
أكّد القاضي الشيخ خلدون عريمط، رئيس “المركز الإسلامي للدراسات والإعلام”، في حديثه إلى “أساس”، أنّ المحكمة العسكرية لم تكن عادلة في أحكامها، “فهناك فريقان، أحدهما دخل منطقة الفريق الآخر وحصل اشتباك نتيجة الاستفزازات والشعارات المذهبية وإطلاق النار على بيوت أهالي خلدة الذين كان لهم ردّ فعل طبيعي دفاعاً عن النفس، بينما لم يُلقَ القبض على أيٍّ من المعتدين”.
عن دور مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، قال عريمط: “أجرى سماحة المفتي اتصالات مع قائد الجيش والأجهزة الأمنيّة المعنيّة، ومع المحكمة العسكرية. وأنا تابعت هذه الاتصالات وواكبتها بزيارات شخصية لقائد الجيش ورئيس المحكمة العسكرية. والمطلوب كان تطبيق العدالة أو الحدّ الأدنى من العدالة. وإذا لم تتيسّر العدالة بحكم أنّ الفريق المعتدي ينتمي إلى فريق مسلّح والمعتدى عليه “مشلّح”، فقد كان الهدف إجراء مصالحة ما بين أهلنا في خلدة وسرايا المقاومة المدعومة أو التابعة للحزب لإنهاء هذا الملفّ وتطبيق العدالة، بمعنى إلقاء القبض على المتسبّبين من كلا الفريقين، ومحاكمتهم. وكان موقف دار الفتوى واضحاً: من ثبت عليه القتل سابقاً أو لاحقاً لا نتدخّل في شأنه، بل نتدخّل فقط لرفع الظلم عن أيّ فريق لبناني، ولتكن الخطوة الأولى نحو المصالحة وطيّ هذا الملفّ المؤلم”.
مفاوضات وخداع
بعد مفاوضات دامت أشهراً بإشراف قيادة الجيش والمخابرات، بين لجنة من أهالي خلدة ومسؤولين من الحزب (النائب أمين شرّي ومسؤولَيْ الحزب علي أيوب وصادق غملوش) وعدد من النواب (محمد سليمان، نبيل بدر، وعماد الحوت)، صدرت الأحكام قبل يوم من عيد الفطر. وهي أحكام وصفها عريمط بأنّها “أحكام فتنة، وأحكام ظالمة وجائرة”. وقال إنّ أهالي خلدة والنواب وقيادة الجيش الذين تفاوضوا في هذا الموضوع مع الحزب “تعرّضوا للخداع”. وتابع: “صدرت الأحكام في توقيت مشبوه لتحاكم طرفاً وتعفي الطرف الآخر من أيّ مسؤولية، علماً أنّ الأسماء الثلاثية للمتّهمين موجودة لدى الأجهزة الأمنية المختصة من كلا الفريقين، لكن يتبيّن أنّ هناك سلطة أقوى من سلطة الجيش على المحكمة العسكرية، وهي سلطة الحزب”.
القهر والخطوة المقبلة
القاضي عريمط كشف أنّ المحامين تحرّكوا لتمييز الأحكام من خلال محكمة التمييز العسكرية لرفع الظلم عن المظلومين وليس لتبرئة المتورّطين، و”نحن لنا ثقة بمحكمة التمييز العسكرية، التي على رأسها قاضٍ مدني عادل ورجل عادل ويعطي كلّ ذي حقّ حقّه”. وشدّد على ضرورة أن يحتكم الحزب إلى الدولة والقضاء اللبناني لطيّ هذا الملفّ المؤلم، “ولا يمكن لأيّ فريق مهما أوتي من قوّة أن يتحكّم بلبنان والدولة اللبنانية. ودار الفتوى ستواكب إخواننا في خلدة لرفع الظلم عنهم، لأنّ واجب دار الفتوى أن تحتضن كلّ فئة مظلومة”.
من جهتها، تحدّثت والدة المفرج عنه محمود غصن بحسرة كبيرة، قائلة لـ”أساس”: “من يعوّض على ابني، ابن الـ24 عاماً، سنة وثمانية أشهر من عمره؟ من يعوّض عليه عمله الذي فقده؟ ومن يعيد له مستقبله؟”.
وكان قد خرج محمود إثر صدور حكم ببراءته أخيراً. وهو يعمل الآن في بيع العصير لتحصيل رزقه بعدما خسر عمله في إحدى شركات التجميل حيث كان مسؤولاً إدارياً، بينما والده وأشقاؤه الثلاثة ما يزالون موقوفين حتى اليوم. وقد حُكم على الوالد بالسجن 7 سنوات، وعلى الأخ الأكبر 10 سنوات، والأوسط 9 سنوات. أمّا الأخ الأصغر وهو قاصر فسيخرج خلال أيام بعد دفع كفالة مالية قدرها 35 مليون ليرة.
ترفض الوالدة المصدومة بالأحكام الصادرة بحقّ زوجها وأبنائها وتؤكّد أنّهم لم يكونوا على صلة مباشرة بالأحداث التي وقعت في خلدة، بدليل براءة ابنها محمود الذي خسر ما يقارب سنتين من عمره في السجن ظلماً، وتضيف: “هذا هو القهر بعينه”.
علم “أساس” أنّه سادت بين الأهالي أجواء امتنان لدار الفتوى التي رعت الملف ولم تترك أهالي خلدة، والمستمرّة بمتابعة القضية. وهم يرون في مسارعة النواب إلى مساندتهم احتضاناً سياسياً إلى جانب الاحتضان الديني والإعلامي
حزب الله خدع الجيش
بدوره أكّد عضو لجنة المتابعة لقضية أحداث خلدة الشيخ بلال الملّا أنّ معركة التمييز يجب أن تكون “عادلة ومنصفة”، وأنّه سيواكبها تشكيل لجنة سياسية من النواب والمعنيين لدعم العمل القضائي وممارسة الضغط السياسي كما يمارسه الآخرون في هذا الملفّ. وأضاف: “الجيش تعرّض لخديعة، والحزب استعمل الجميع ومرّر ما يريد. لذلك رأينا مسارعة قيادة الجيش إلى الاجتماع مع قضاة المحكمة العسكرية لتدارك هذا الأمر”.
برأي الملّا أنّ “الجيش تعرّض مثلنا للتهميش. والاتفاق الذي عُقِد ذهب أدراج الرياح ولم يتمّ الالتزام به، لأنّ المحاكمات طالت فريقاً واحداً، بينما تعرف القوى الأمنية “الكوموندوس” بالأسماء الثلاثية وأسماء الأمّهات، ولديها الوثائق وأرقام السجلّ والسيارات وعناوين المنازل، ورأتهم في الصور والفيديوهات. لكن لم يتمّ توقيف أيّ منهم”.
زشدّد الملّا على أنّه “في حال لم تقدر الدولة على محاسبة المتورّطين المحسوبين على الحزب، فلنذهب إلى إصدار أحكام عادلة بحقّ هؤلاء. وهذا أضعف الإيمان. وليس عن ضعف أو قلّة حيلة، لكن إيماناً منّا بالدولة والجيش والقانون”.
ماذا يقول الأهالي؟
هناك امتعاض كبير لدى أهالي خلدة الذين يتخوّفون من أن تتطوّر الأوضاع في حال استمرار التعاطي المهين معهم في هذا الملف. وأكّدت مصادر عشائرية لـ”أساس” أنّ العشائر “لن تقبل بهذه الأحكام، وستترك المجال لجميع الوسطاء من كلّ الجهات. وتمدّ يدها للتفاوض وإحقاق الحقّ. لكن لا أحد يراهن على صبر العشائر العربية. وعلى الفريق الآخر أن يفهم ذلك وإلّا فلا يلومنا أحد على الخطوة المقبلة”.
وذكّرت المصادر بأنّ العشائر صبرت سنتين قبل تسليم القاتل علي شبلي، المسبّب الرئيسي لأحداث خلدة، وأنّه “عندما لم يُسلَّم وقع المحظور، ونتمنّى ألّا يقع مرّة أخرى”.
كما جزمت مصادر أخرى بأنّ نتائج إيجابية ستظهر في الأيام المقبلة، وذلك “لأنّ العقلاء أدركوا خطورة الوضع”، وأكّدت أنّ “الجيش محرج ومطعون، وحتى رئيس مجلس النواب نبيه بري أوعز بطيّ هذا الملف، لأنّ هناك شيعة يعيشون في المنطقة، ويجب الذهاب إلى تسوية ترضي الجميع”. ودعت هذه المصادر عبر “أساس” العقلاء إلى المسارعة في الضغط وإحقاق الحقّ، “وإن كانت الدولة عاجزة عن محاسبة الحزب فليكن الحلّ تسوية شاملة تطوي الملف، لأنّ الاستمرار في الظلم يصل إلى ما لا تُحمد عقباه”.
من ناحيته، نقل الشيخ بدر عبيد، وهو أحد وجهاء عشائر خلدة، أجواء الامتعاض السائدة بين الأهالي، قائلاً: “ظلم في السويّة عدل في الرعيّة. ونحن نحتكم إلى منطق الدولة والقانون. لكن نريد العدل والعدالة للجميع. فلا يمكن أن يكون صيف وشتاء تحت سقف واحد”. وأضاف: “نحن لم نكن يوماً سعاة إلى الاقتتال. فنحن مواطنون لبنانيون ودُعاة وحدة وطنية، إضافة إلى الوحدة الإسلامية. والجوّ العشائري ضدّ منطق أخذ الحقّ باليد أو الفتنة أو الاشتباك. لكن بغياب الدولة الضامنة للحقّ والعدالة فلا حول ولا قوّة”.
أشار مصدر عشائري مطّلع على مسار المفاوضات إلى أنّ الاحتضان منح القضية بعداً وطنياً: “هناك نصاب سياسي سنّيّ وازن قادر على أن يجمع نصاباً وطنياً وازناً على قضيّة محقّة
قنبلة موقوتة
علم “أساس” أنّه سادت بين الأهالي أجواء امتنان لدار الفتوى التي رعت الملف ولم تترك أهالي خلدة، والمستمرّة بمتابعة القضية. وهم يرون في مسارعة النواب إلى مساندتهم احتضاناً سياسياً إلى جانب الاحتضان الديني والإعلامي: “لأنّ التضامن، وفق الأهالي، هو تضامن مع قضية حقّ، وقضية وطنية، وليست قضية عشائرية أو سنّيّة. وهي تهمّ كلّ مهتمّ بمنطق الدولة وإحقاق الحقّ وتطبيق العدالة”.
وأشار مصدر عشائري مطّلع على مسار المفاوضات إلى أنّ الاحتضان منح القضية بعداً وطنياً: “هناك نصاب سياسي سنّيّ وازن قادر على أن يجمع نصاباً وطنياً وازناً على قضيّة محقّة. فالعشائر العربية تملك الشرعية الشعبية وحضورها وازن ديمغرافياً (بالحدّ الأدنى 400 ألف نسمة في لبنان). وهذا نصاب ديمغرافي وشرعية شعبية وازنة سنّياً. والنصاب القانوني السياسي متوافر لأنّ معظم النواب المنتخبين السنّة كانوا حاضرين ليشكّلوا نصاباً سياسياً وازناً”. وأكّد المصدر أنّ “تيار المستقبل الذي قال إنّه لم يتدخّل بالقضية، ولم يشارك في اللقاء الجامع الأخير، في الحقيقة لم تتمّ دعوته أصلاً إلى هذا اللقاء أو إلى أن يكون طرفاً في القضية”.
أمير الضاهر، أحد وجهاء عشائر خلدة أكّد أيضاً أنّ الأهالي كانوا ينتظرون أحكاماً مختلفة: “كان الفريق القانوني يتحدث عن أحكام من 7 سنوات وما دون. تفاجأنا قبل العيد بأحكام مؤبدة وأحكام 10 سنوات وأكثر”. وأضاف: “هذه الأحكام قنبلة موقوتة كانت خلدة بغنى عنها. وبطبيعة الحال هناك خطوة مقبلة لإعادة النظر في الأحكام. وأملنا بالقيادة الحكيمة للجيش”.
حاضنة سياسيّة
من الناحية السياسية تحدّث النائب نبيل بدر لـ”أساس” مؤكّداً أنّه مع مجموعة من النواب واكبوا الملف قانونياً بعدما كان مجمّداً لأكثر من سنة. وقال: “ألزمنا الآخرين بتعجيل المحاكمات بعدما كانت متوقّفة. ومنعنا أن يصبح هذا الملف ملف موقوفين إسلاميين جديداً. وشكّلنا حاضنة سياسية خلف أهلنا في خلدة ليعرف الأهالي والآخرون أنّ عرب خلدة غير متروكين، بل محاطون بمجموعة من النواب لديها موقف واحد صلب وثابت”.
من بين 26 موقوفاً في أحداث خلدة خرج 17 من السجن: 11 براءة، و6 اكتفاء بمدّة السجن الماضية، وبقي 8 موقوفين حُكموا بين 5 و10 سنوات.
النائب عماد الحوت أكّد لـ”أساس” أنّ هناك جزءاً غير مقبول من الأحكام الصادرة لأنّها تتجاوز ما تمّ الاتفاق عليه في إطار السعي إلى المصالحة. وأوضح أنّ العمل سيكون في اتجاهين اليوم:
– الأول تمييز هذه الأحكام للوصول إلى أحكام عادلة تسهّل المصالحة والعيش المشترك في هذه المنطقة.
– الثاني: التواصل مع قيادة الجيش لتسهيل هذا الأمر لنصل إلى حلّ يجعل أهل المنطقة جميعاً مستقرين أمنياً وقادرين على العيش.