إذا كان صحيحاً ما قالته أوساط دبلوماسية إثر اتفاق 10 آذار الماضي في بكين بين المملكة العربية السعودية وإيران على استئناف العلاقات الدبلوماسية، من أنّ الاختبار الأهمّ لمدى نجاحه سيكون في سوريا، فإنّ هذا الاختبار يواجه عوائق دوليّة جديّة حتى إشعار آخر، بعد خمسة أشهر على التقارب بين الدولتين اللتين خاضتا حروباً بالواسطة خلال العقد الماضي.
لا يقتصر تعداد أسباب هذه العوائق على الإشارة إلى عدم تلبية سوريا شروطاً أساسية للسعودية وسائر الدول العربية، ولا سيّما وقف تهريب الكبتاغون وبدء إجراءات عودة النازحين السوريين من الأردن ولبنان، مقابل تمويل خليجي لإعادة الإعمار تحول دونه العقوبات الأميركية، بل يتعدّاها إلى ما هو أبعد وأعمق من ذلك.
تصاعد الحديث في الشهرين الماضيين عن مشروع أميركي لإنشاء حزام عشائري سنّيّ في شرق سوريا يمتدّ لاحقاً إلى العراق، وفق مراجعة أميركية تقضي بعدم الاكتفاء بالاعتماد على المكوّن الكردي
انقسام “الفسطاطين” في أوكرانيا
من غير الاستخفاف بامتناع الجانب السوري عن التجاوب مع ما جاء في بيان اجتماع عمّان الشهير في الأول من أيار الماضي، وقرارات قمّة جدّة العربية في 19 أيار، في شأن الكبتاغون وعودة النازحين، فإنّ السبب الجوهري لفرملة التقارب العربي والخليجي مع النظام في سوريا يتّصل بالانقسام الدولي بين “فسطاطين”، روسيا والدول التي تساندها في أوكرانيا وفي طليعتها إيران، من جهة، وأميركا وأوروبا والدول التي تقف مع الغرب على الساحة السورية من جهة ثانية. وقد شهدت الأشهر الأخيرة تطوّرات خطيرة في المواجهة بين الدولتين العظميَيْن وحلفاء كلّ منهما.
يدعو متابعون لانعكاسات الصراع الدولي إقليمياً، إلى مراقبة الموقف الروسي من الدعوة التي وجّهتها القيادة السعودية إلى أكثر من 30 دولة للاجتماع في جدّة غداً وبعد غد، لبحث اقتراحات السلام في أوكرانيا. وقد يحضر هذا الاجتماع رؤساء دول أو مستشارون رئاسيون، ويشارك فيه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لشرح اقتراحاته للسلام. ولم تتمّ دعوة روسيا إلى الاجتماع. وأفادت التقارير الدبلوماسية أنّ موسكو منزعجة من عقد هذا الاجتماع لأنّه يتيح لزيلينسكي منبراً لإعلان مواقف ضدّها. واعتبر بيان للخارجية الروسية أنّ هذه محاولة من قبل “عصابة زيلينسكي” للاستفادة من حسن نيّة الدول المشاركة في المبادرة لتشكيل تحالف ضدّ روسيا. أمّا واشنطن فرحّبت بالدعوة، ويُقال إنّ دولاً أوروبية شجّعت الرياض على المبادرة إليها.
الاحتكاكات الأميركيّة الروسيّة في سوريا
إلا أنّ هناك سياقاً لتدرّج الوقائع المتّصلة بالصراع الدولي على الأرض السورية وفي الإقليم. وبرزت هذه الوقائع في الأسابيع والأيام الماضية وتتجاوز العلاقة الثنائية الإيرانية السعودية، والسعودية السورية، وتنذر بتصعيد جديد:
– وقف التنسيق بين الجيشين الروسي والأميركي في سوريا الذي وُضعت آليّته منذ عام 2016 لتجنّب حوادث بين قواهما العسكرية، فتزايدت الاحتكاكات بينهما، وآخرها إعلان نائب رئيس مركز المصالحة الروسي في قاعدة حميميم الروسية، أوليغ غورينوف، الإثنين، أنّ مسيّرة تابعة للتحالف بقيادة الولايات المتحدة حلّقت بلا تنسيق مع الجيش الروسي، و”اقتربت بشكل خطير” من مقاتلة “سوخوي – 34” روسية في سماء سوريا في 30 تموز. جاء ذلك في اليوم نفسه الذي نُظّم فيه استعراض عسكري روسي بحريّ قبالة قاعدة طرطوس البحرية الروسية. وكان غورينوف قال إنّ مسيّرات تابعة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة انتهكت سلامة الرحلات الجوّية في سوريا 340 مرّة خلال شهر تموز. وفي المقابل اتّهمت واشنطن موسكو بأنّها أوقفت العمل باتّفاق تجنّب الاحتكاكات.
تُصنَّف الهجمات التي تشنّها مسيّرات إيرانية ضدّ القواعد الأميركية في سوريا، وخصوصاً قاعدة التنف في مثلّث الحدود بين العراق وسوريا والأردن، على أنّها مدعومة من روسيا. (أدّت إلى مقتل متعاقد أميركي في نيسان الماضي).
يدعو متابعون لانعكاسات الصراع الدولي إقليمياً، إلى مراقبة الموقف الروسي من الدعوة التي وجّهتها القيادة السعودية إلى أكثر من 30 دولة للاجتماع في جدّة غداً وبعد غد، لبحث اقتراحات السلام في أوكرانيا
الحزام العشائريّ السنّيّ… والتعقيدات الإيرانيّة
– تصاعد الحديث في الشهرين الماضيين عن مشروع أميركي لإنشاء حزام عشائري سنّيّ في شرق سوريا يمتدّ لاحقاً إلى العراق، وفق مراجعة أميركية تقضي بعدم الاكتفاء بالاعتماد على المكوّن الكردي الذي يشكّل العصب القيادي والماليّ لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) منذ اندلاع الحرب السورية، وبتوسيع أرضيّة النفوذ نحو المكوّن العربي السنّيّ العشائري في مواجهة النفوذين الروسي والإيراني اللذين دعما نظام الرئيس بشار الأسد. فواشنطن تمسّكت بوجودها العسكري في سوريا بعد حرب أوكرانيا، كأحد ميادين الصراع مع موسكو التي امتدّت إلى إفريقيا وآسيا. وتبيّن لواشنطن أنّ تحصين قدرتها على مواجهة النفوذ الروسي-الإيراني والهجمات ضدّها في سوريا، يتطلّب استمالة العشائر السنّيّة التي عانت من هيمنة المكوّن الكردي وسيطرته على عائدات آبار النفط في محافظات دير الزور والرقّة والحسكة، أي في مناطق سيطرة “قسد”. وهذا هدف تتقاطع فيه مع تركيا من جهة، ويعينها مستقبلاً، حسب العارفين بما يهيّئه الأميركيون، على السيطرة على شريان الطريق البرّي من العراق إلى سوريا وصولاً إلى لبنان، من جهة ثانية. ويلفت العارفون بخلفيّات المشروع الأميركي إلى أنّه يطوّق الجناح الموالي لإيران في المكوّن الكردي الذي ضغط للحؤول دون مشاركة “قسد” في أيّ معارك ضدّ الميليشيات الموالية لطهران…
– بعد توقّف المفاوضات السورية الإيرانية الأميركية في سلطنة عُمان، قبل زهاء أربعة أسابيع، بفعل الخلاف على دعم طهران لموسكو بالمسيّرات والصواريخ، وطلب واشنطن ضمانات بعدم استهداف القوات الأميركية في سوريا والعراق، مقابل الإفراج عن أرصدة إيرانية مجمّدة بفعل العقوبات الأميركية، عادت أذرع طهران في اليمن ولبنان وسوريا إلى تصعيد حملتها على السياسة الأميركية باعتبارها سبب الأزمات في هذه الدول. يروي العارفون في هذا الصدد أنّ طهران أطلقت سلسلة إشارات إلى أنّها قادرة على تعقيد حلّ الأزمات الإقليمية، وبلغت حدّ دفع الحوثيين إلى وضع شروط مستحيلة حتى بالنسبة إلى تنفيذ الاتفاق مع الأمم المتحدة على سحب كميّات النفط من الناقلة “صافر” الراسية قبالة محافظة الحديدة في اليمن، قبل أن تبدأ الشركة المتعاقَد معها بالسحب. وتقول تقارير دبلوماسية إنّ المفاوضين الحوثيين كانوا يعودون إلى الإيرانيين في أدقّ تفاصيل التفاوض والعراقيل المفتعلة التي أخّرت العملية.
مطلب الانسحاب الأميركيّ من بلاد الشام
– كانت مفاوضات سورية أميركية أُحيطت بسرّية تامّة جرت خلال زهاء ثلاث جولات في عُمان، بموازاة تلك التي كانت جارية بين أميركا وإيران (قيل إنّ طهران شجّعت واشنطن عليها)، وتناولت بين عناوينها الإفراج عن الصحافي الأميركي أوستن تايس وناشط أميركي سوري الأصل ومسائل أخرى تتعلّق بتنفيذ قرارات مجلس الأمن ورفع جزئي للعقوبات عن دمشق. لكن وصل فجأة إلى عُمان الجانب السوري المفاوض وأبلغ الأميركيين أنّ الجلسات السابقة كأنّها لم تكن، والمطلوب أن ينسحب الجنود الأميركيون من شمال شرق سوريا في شكل كامل وبلا شروط.
– في 30 تموز زار وزير الخارجية السوري فيصل المقداد طهران لأربعة أيام لتفعيل الاتفاقات الاقتصادية، وصرّح بأنّ “من الأفضل للجيش الأميركي أن ينسحب من سوريا، قبل أن يتمّ إجباره على ذلك”، مشيراً إلى أنّ “القوات الأميركية موجودة بين الحدود السورية والأردنية والعراقية من أجل منع التعاون والتنقّل” بين الدول الثلاث. ولا يحتاج الأمر إلى كثير عناء لفهم أنّ طهران استقبلت المقداد في سياق خطّتها التي سبق لصحيفة “واشنطن بوست” أن تحدّثت عن أنّ المخابرات الأميركية كشفتها، وتقضي بتصعيد العمليات ضدّ الوجود الأميركي.
تأخير التطبيع
هذه الوقائع يرفدها تراجع الآمال التي عُلِّقت على أن ينعكس الانفتاح السعودي الإيراني على سوريا، بتسارع التطبيع بين الرياض ودمشق، إثر حضور الرئيس السوري بشار الأسد القمّة العربية في جدّة بدعوة من قيادة المملكة، تتويجاً لاتصالات تخلّلتها زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود للعاصمة السورية خلال شهر رمضان. وما عزّز هذه الآمال أنّ أحد عوامل التقارب السعودي مع الأسد كان تمنّي طهران على الرياض أن تسرِّع في ذلك. وبينما أعلن الجانبان منذ أواخر نيسان الماضي أنّ السفارتين السورية في الرياض، والسعودية في دمشق ستُفتحان في أوائل حزيران الماضي، اقتصر الأمر على فتح الخدمات القنصلية. جاءت فرملة هذه العملية موازية لتجميد فتح السفارة السعودية في طهران قبلها. وأمس صرّح السفير الإيراني المعيّن في الرياض رضا عنايتي أنّ المملكة “أرجأت إعادة فتح سفارتها في طهران وقالوا إنّهم سيعيدون فتحها متى رأوا ذلك مناسباً”.