لم يعد من كلام يقابل الميدان، سوى كلام آموس هوكشتاين. يستمر الرجل بمحادثاته المكوكية، في إطار تجنّب اتساع رقعة الصراع بين إسرائيل وحزب الله. على عجل يحط الرجل في تل أبيب، وهو الذي يمتلك منزلاً في القدس. اتصالاته لم تنقطع مع المسؤولين اللبنانيين. وهو بصدد التحضير لزيارة أيضاً إلى بيروت لتلافي التصعيد. يبدو لدى الأميركيين أن لا خيار تصعيدياً لدى حزب الله في لبنان. وهذا ما يقوله أكثر من مسؤول أميركي. وتتأكد القناعة بعد كلام أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، الذي مرر في موقفه أكثر من رسالة. أولها، أن التحركات التي قام بها الحزب في 8 تشرين الأول هي “قربة إلى الله”. أي انسجاماً مع “موقف شرعي وأخلاقي” لمساندة غزة. وثانيها، أن الحزب يأخذ في الاعتبار المصالح اللبنانية ووضع البلد. أما ثالثها، فظهر عندما تحدث عن منطق وحدة الجبهات ركز على “الاستقلالية” أو ذاتية القرارات ضمن هذه الوحدة. وهو استكمال في إطلاق إشارات عدم السعي وراء التصعيد الكبير. فتكون المعادلة “تجزئة الجبهات ضمن وحدتها”.
فرصة هوكشتاين
كل هذه الوقائع والإشارات، تمنح فرصة جديدة للمبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، والذي أصبح الرهان اللبناني عليه جامعاً، للخروج من معادلة الاستنزاف القائمة، وفي منع توسيع إطار الحرب. لكن الحزب غير قادر على التراجع خطوة إلى الوراء، طالما الحرب على قطاع غزة مستمرة. لذا، سيكون عليه التحضير لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار من جهة، وحصر المواجهات في جنوب لبنان من جهة ثانية. وهذا ما تتركز عليه الجهود السياسية والديبلوماسية اللبنانية، رداً على كل الاتصالات التي ترد. فيؤكد المسؤولون اللبنانيون للمسؤولين الدوليين بأن حزب الله لا يزال يلتزم بالقواعد نفسها، بينما اسرائيل هي التي تخرقها وتعمق من استهدافاتها وتنتقل إلى العمليات الأمنية والتصفيات.
هنا، يطالب لبنان هوكشتاين بالضغط على اسرائيل لوقف هذا التصعيد، والعودة إلى معادلة كانت قد نوقشت معه سابقاً في إبقاء نطاق المواجهة ضمن مسافة تتراوح بين 3 و5 كلم، وبحدها الأقصى 7 كلم، إلا أن اسرائيل لم تلتزم بذلك. أما الرهان على هوكشتاين، فيبقى مرتبطاً بوقف الحرب على غزة، وإطلاق مسار سياسي لمعالجة النقاط التي أصبحت معروفة بما يتصل بترسيم الحدود البرية والانسحاب من 13 نقطة، بالإضافة إلى إيجاد صيغة لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من بلدة الغجر، عبر وضعها تحت سيطرة الأمم المتحدة.
المصلحة الوطنية
ما ثبته نصرالله أيضاً في خطابه، هو ما قيل سابقاً وإثر اندلاع المواجهات، أن الحزب لا يريد الذهاب إلى حرب أو مواجهة واسعة، لأن آثارها ستكون سلبية جداً، والتدمير الذي سينجم عنها سيؤدي إلى خلق مشاكل كبيرة، حزب الله بغنى عنها. من هنا، تحدث نصرالله عن الحرص على المصلحة الوطنية اللبنانية. وهو أكبر دليل على أن الحزب لا يريد الذهاب إلى حرب، لأن لا مصلحة فيها. فأي حرب ستكون نتائجها كارثية على البلد وعليه. ليس الحزب وحده لا يريد الحرب، فإيران هي التي لا تريد هذه الحرب. لكن اللافت أنه في السابق، وعندما كان يخرج مسؤولون سياسيون لبنانيون معارضون للحزب لمناشدته بمراعاة مصالح لبنان وعدم التدخل في سوريا، العراق، اليمن وفي عدم شن الحروب الخارجية أو المعارك الداخلية، كان يخرج ليتهم خصومه بالخيانة والتخاذل، فيما عاد هو إلى معادلتهم.
أما بخصوص الرد على اغتيال صالح العاروري، فهو سيكون حتمياً. ولكن من دون أن يؤدي إلى حرب أو مواجهة، خصوصاً أنه لا يمكن للحزب تعريض أي مكاسب سياسية واستراتيجية في حرب قابلة للاندلاع. وهو لم يحصل لدى اغتيال عماد مغنية، وقاسم سليماني.
الاستفزاز الإسرائيلي
في مقابل اتضاح صورة ومسار المواجهة التي يخوضها الحزب ضمن الضوابط التي أعلنها نصرالله بنفسه، تبرز المحاولات الإسرائيلية والأميركية أيضاً لتوسيع إطار الاستهدافات. من العراق وسوريا إلى اليمن، بالإضافة إلى التصعيد الإسرائيلي في لبنان، مع محاولات إظهار القدرات الاستخبارية الإسرائيلية المتفوقة. وهو ما نفاه نصرالله. إلا أن الإسرائيليين يصرون على الاستمرار في الاستهدافات، وربما بغرض المزيد من الاستفزاز.
أما بالنسبة إلى ظهور نصرالله بهذا المدى الواسع والوقت المتاح ليقدّم مرافعاته، فيبيّن الكثير من الانحلال السياسي لدى الآخرين، ولا سيما خصومه، الذين لا يمتلكون أي خطاب متكامل أو رؤية سياسية. فيبدو هو مستمراً في تصدر المشهد. فهم عندما يتحدثون عن القرار 1701 أو المفاوضات تبدو مواقفهم باهتة ومكررة، بينما هو وضع بين يديه كل الخيوط، سواء كانت للتصعيد في حال فُرض على الحزب، أو بمسألة التفاوض. فكان واضحاً في حجم الرسائل والتحذيرات التي تلقاها الحزب من الأميركيين، الفرنسيين، البريطانيين والألمان. وهو ما يؤيد معادلة أن أي تفاوض سيكون معه لا مع غيره.