على بعد أيام قليلة من الذكرى الـ19 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، يبدو مفيداً التذكير مجدّداً بأنّ من بين أسباب الحقد الإيراني، الذي ترافق مع حقد ليس بعده حقد للنظام السوري على الرجل، موقفه من ضرورة عودة جنوب لبنان إلى حضن الدولة اللبنانيّة.
نُفّذت الجريمة التي استهدفت رفيق الحريري، وهي جريمة استهدفت الانتهاء عمليّاً من لبنان في الرابع عشر من شباط 2005. أثبتت المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان أنّ عناصر من “الحزب” تولّت التنفيذ بما يؤكّد البعد الإقليمي للحدث الذي حصل مع الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. كانت تلك انطلاقة أمّنتها إدارة جورج بوش الابن في عام 2003 عندما اجتاحت العراق وسلّمته على صحن من فضّة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة”.
لهذه الأسباب اغتيل الحريري
نُفّذت الجريمة من أجل استكمال الهلال الفارسي، الذي كان الملك عبدالله الثاني أوّل من تحدّث عنه في حديث إلى صحيفة “واشنطن بوست”، وسمّاه وقتذاك “الهلال الشيعي” الممتدّ من طهران إلى بيروت مروراً بدمشق وبغداد.
دفع رفيق الحريري من دمه وحياته، ودفع معه لبنان واللبنانيون جميعاً، بمن في ذلك أهل الجنوب، ثمن سعيه إلى عودة لبنان إلى خريطة الشرق الأوسط، كذلك ثمن سعيه إلى جعل الجنوب اللبناني منطقة مزدهرة ومستقرّة، أي منطقة تتّسع لكلّ أهلها بدل أن تكون “ساحة” فلسطينية، كما كانت عليه في الماضي، ثمّ سوريّة – إيرانيّة قبل الانسحاب العسكري السوري من لبنان في نيسان 2005، وأخيراً محض إيرانيّة…
دفع رفيق الحريري من دمه محاولته في 1996 إنقاذ الجنوب ولبنان كلّه من الثقافة الزاحفة على لبنان، وهي ثقافة الموت التي ما لبثت أن تمكّنت من البلد
الجنوب “ساحة” إسرائيليّة
لم تعترض إسرائيل يوماً على أن يكون الجنوب “ساحة”. أكّد لي الدبلوماسي الأميركي الذي رافق دين براون، مبعوث هنري كيسنجر إلى لبنان أواخر عام 1975، أنّ إسرائيل، حيث كان إسحق رابين رئيساً للحكومة، رفضت وصول الجيش السوري إلى خطّ الحدود اللبناني – الإسرائيلي. جاء الرفض الإسرائيلي بعدما استطاع كيسنجر، الذي كان وزيراً للخارجيّة، عقد صفقة غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل بوساطة الملك حسين وقتذاك. بموجب تلك الصفقة، يدخل الجيش السوري إلى كلّ الأراضي اللبنانية ويضع يده على كلّ القواعد التي يتمركز فيها “المسلّحون التابعون لمنظمة التحرير الفلسطينية”. في اللحظة الأخيرة، غيّر رابين رأيه وأبلغ وزير الخارجية الأميركي، استناداً إلى الدبلوماسي الذي رافق دين براون، أنّ إسرائيل لا تريد الجيش السوري على خطّ الحدود مع لبنان، بل تفضّل بقاء المسلّحين الفلسطينيين في تلك المنطقة. برّر رابين موقفه الجديد، الذي رسم “خطوطاً حمراً” للوجود العسكري السوري في لبنان، والذي استدعى استدعاء كيسنجر لدين براون ومساعده إلى مكتبه مرّة أخيرة، بقوله: “نحتاج إلى الاشتباك مع الفلسطينيين بين حين وآخر (في جنوب لبنان)” (We need to engage the Palestinians from time to time).
كلّفت محاولة المحافظة على جنوب لبنان والاستفادة من التعاون بين الجيش اللبناني والقوّة الدولية فيه رفيق الحريري الكثير. كان ذلك قبل صدور القرار الرقم 1701 بعد حرب صيف عام 2006، وهي حرب استهدفت بين ما استهدفته التغطية على جريمة 14 شباط تمهيداً للوصول إلى الوضع الراهن الذي يتمثّل في تحويل لبنان كلّه “ساحة” لإيران وليس الجنوب وحده.
في سنة 2024، لا يزال في لبنان من يرفض استيعاب معنى قطع الطريق على المتاجرة بجنوب لبنان عن طريق حرب، على نار خفيفة، تهدّد مصير البلد في حال اشتعالها برغبة إسرائيليّة. ليس مفهوماً ما هي آفاق ربط لبنان نفسه ومصيره، كما يفعل وزير الخارجية في الحكومة المستقيلة عبدالله بوحبيب، بحرب غزّة التي معروف كيف بدأت وليس معروفاً كيف ستنتهي.
عندما وشى لحّود بالحريري
في العام 1993، قبض قائد الجيش إميل لحّود ثمناً لوشايته برفيق الحريري وتحريضه عليه لدى حافظ الأسد بسبب سعي الحريري، بالتفاهم مع مسؤولين سوريّين بينهم حكمت الشهابي (رئيس الأركان) وعبد الحليم خدّام (نائب رئيس الجمهوريّة)، إلى دخول الجيش اللبناني إلى جنوب لبنان. حذّر إميل لحّود الأسد الأب، في اتّصال بينهما، من “مؤامرة” تنفَّذ من خلف ظهره تستهدف عودة الجيش اللبناني إلى جنوب لبنان وكأنّ هذا الجيش يعود إلى أرض غريبة عن لبنان أو منفصلة عنه. كانت الوشاية التي قام بها إميل لحّود مفيدة بالنسبة إليه. اوصلته الوشاية في عام 1998 إلى رئاسة الجمهورية بعدما صار معتمَداً وشخصاً موثوقاً به من “الحزب” ومن إيران.
ما الفائدة التي سيجنيها وزير الخارجية اللبناني، من ترويجه لـ”مؤامرة” تراجع “الحزب” كيلومترات عدّة وتنفيذ القرار 1701، الذي وافق عليه الحزب وإيران بُعيد صدوره، بحذافيره؟ كيف يوفّق عبد الله بوحبيب بين رغبة لبنان بالتزام القرار 1701 حماية لنفسه ولمواطنيه من جهة وتشكيكه في قدرات الجيش اللبناني وعدم جهوزيّته من جهة أخرى؟ هل نسي أنّ هناك منطقة عمليات للقوّة الدوليّة في جنوب لبنان يُفترض ألّا يكون فيها وجود للحزب وسلاحه؟
دفع رفيق الحريري من دمه محاولته في 1996 إنقاذ الجنوب ولبنان كلّه من الثقافة الزاحفة على لبنان، وهي ثقافة الموت التي ما لبثت أن تمكّنت من البلد. المخيف في الوقت الحاضر غياب جبهة داخليّة لبنانيّة تقول كلمة لا في وجه إيران والحزب وتعيد التذكير بأنّ إسرائيل لم تكن يوماً تعترض على وجود سلاح غير شرعي في جنوب لبنان.
مع غياب رفيق الحريري، غابت أمور كثيرة. من بين الأمور التي غابت القدرة على السعي، مجرّد السعي، إلى إيجاد موقع للبنان على خريطة المنطقة بدل أن يكون مجرّد ورقة لدى إيران كما حال الحكومة العراقيّة الحاليّة أو النظام السوري… أو الحوثيين في اليمن!