بخلاف الرأي السائد، فإنّه لا أمل في أن يؤدّي انتخاب رئيس لبناني جديد أو تنصيب حكومة جديدة إلى تغيير في سياسة لبنان القائمة على الإفلات من العقاب. هذا ما أكّده ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى السابق، بحسب ما جاء في المقال الذي كتبه في مجلّة “فورين بوليسي” الأميركية لمناسبة مرور ثلاث سنوات على انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، وذكرى إدانة المحكمة الخاصّة بلبنان غيابياً عضو الحزب سليم عياش بتهمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في عام 2005، “فلا متابعة قانونية في لبنان بخصوص هاتين الحادثتين. ومن المستبعد أن يواجه مرتكبوها العدالة يوماً ما”.
لبنان دولة فاشلة
دعا شينكر واشنطن وشركاءها إلى التركيز على مسألة الإحجام المستمرّ عن الإصلاح والمساءلة في لبنان في قضايا الاغتيالات والفساد وطلبات تسليم المجرمين بدلاً من التركيز على انتخاب من سيكون بلا شكّ رئيساً تنفيذياً ضعيفاً آخر، محذّراً من أنّ استمرار هذا النهج المتساهل تجاه منتهكي القانون مثال سليم عياش ورياض سلامة وكارلوس غصن يجعل لبنان دولة ملاذ للمجرمين. فبعد ثلاث سنوات من أزمة اقتصادية عميقة، أصبح لبنان دولة فاشلة تعتمد على المساعدات الدولية. وهذا الدعم مهدّد الآن بأن يتوقّف بسبب تجاهل بيروت للمساءلة القانونية المطلوبة.
على الرغم من أنّ لبنان نادراً ما يسلّم المجرمين المشتبه فيهم، كما رأى شينكر، فإنّه يمكنه محاكمة هؤلاء الأفراد وإدانتهم على أراضيه إذا طلبت دولة أجنبية ذلك وقدّمت ملفّات القضية. وأشار شينكر أيضاً إلى قضية رامي عدوان، سفير لبنان في فرنسا، الذي اتّهمته في حزيران الماضي موظّفتان في السفارة بمحاولة اغتصابهما، فبدلاً من رفع الحصانة عن الدبلوماسي اللبناني لمواصلة محاكمته في فرنسا، بطلب من باريس، استدعته الخارجية اللبنانية إلى بيروت لحمايته من الملاحقة القضائية.
رأى شينكر أنّ العقوبات أداة مفيدة، إلا أنّها لا تستطيع حلّ مشكلة الإفلات من العقاب في لبنان. في الواقع، تجاهلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة بشكل متكرّر الضغط الأميركي والأوروبي
ماذا عن رياض سلامة؟
تناول شينكر بإسهاب مسألة رياض سلامة، الذي ظلّ حاكم المصرف المركزي لمدّة 30 عاماً، والمحميّ أيضاً من المخاطر القانونية في الخارج، إذ أصدرت كلّ من فرنسا وألمانيا مذكّرات توقيف دولية بحقّ سلامة بتهم فساد في أيار الماضي. وسلامة، الذي انتهت ولايته قبل أيام، متّهم باختلاس حوالي 300 مليون دولار من المصرف المركزي. لكنّ الجرائم المزعومة لسلامة تكاد لا تُلحظ وسط الفساد المستشري الواسع النطاق الذي دمّر الدولة اللبنانية. لكنّه بالنسبة لكثير من الناس في لبنان وخارجه، أصبح رمزاً لسوء السلوك الرسمي. أمرَ القضاء اللبناني بمصادرة جواز سفره بحجّة منعه من الهروب. ومع ذلك، فمن المرجّح أنّ بيروت تريد منعه من السفر إلى الخارج والإدلاء بشهادته في أوروبا، تجنّباً لكشف الأدلّة، التي قد تورّط العشرات من كبار السياسيين والمصرفيين في لبنان. فبعد تولّيه هذا الدور الماليّ الرئيسي، يعرف سلامة مكان دفن جثث النخبة اللبنانية. ومن الصعب تخيّل أنّه سيغامر بالسفر إلى الخارج مرّة أخرى.
في مثال آخر عن سياسة الإفلات من العقاب في لبنان، اعتبر شينكر أنّ كارلوس غصن، الرئيس التنفيذي السابق لشركة رينو ونيسان، ربّما يكون أشهر المستفيدين من اللجوء إلى لبنان. فعلى الرغم من كونه مطلوباً من قبل طوكيو وباريس، يقيم بشكل مريح في بيروت مع زوجته وتقدّر ثروته بـ 70 مليون دولار.
أشار شينكر إلى أنّ انعدام المساءلة في لبنان لا يقتصر على القضايا الخارجية وطلبات تسليم المجرمين، إذ ما تزال العشرات من الاغتيالات السياسية في لبنان، التي يُعتقد أنّ معظمها نفّذها الحزب، بلا محاكمة محليّاً، ولم يتمّ التحقيق فيها. وعلى سبيل المثال، اغتيال لقمان سليم الناقد البارز للحزب، وإعدام أحد جنود حفظ السلام الإيرلنديين التابعين للأمم المتحدة في جنوب لبنان، في كانون الأول 2022، من قبل مجموعة من عملاء الحزب الذين عرّفوا أنفسهم على هذا النحو.
بيروت مصدر إزعاج
حذّر شينكر من أنّ نهج بيروت الخاطئ للعدالة أصبح مصدر إزعاج للدول المانحة. فبعد ثلاث سنوات من الأزمة المالية التي شهدت انخفاضاً في قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 98% وتخلّفاً عن سداد ديون البلاد السيادية، يعتمد لبنان بشكل متزايد على المساعدات الإنسانية والمالية الأجنبية. إنّ حماية لبنان لعدوان وسلامة وغصن هي إهانة مباشرة، من دون أيّ عواقب حتى الآن، لأكبر دولتين من الدول الأوروبية المانحة للبنان، فرنسا وألمانيا. وإذا لم تكن المساءلة أولويّة في العواصم الأوروبية، فهي مصدر قلق كبير في واشنطن، التي تقدّم مساعدات لبيروت أكثر من باريس أو برلين. في السنوات الأخيرة، صنّفت وزارة الخزانة الأميركية مجموعة من النخب اللبنانية بسبب الفساد بموجب قانون ماغنيتسكي العالمي وقانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية. حظيت هذه العقوبات بدعم الحزبين في الكونغرس، لكنّها حظيت أيضاً بإحباط متزايد بسبب عدم إحراز تقدُّم في بيروت. ودعا بعض المشرّعين الأميركيين، بمن فيهم السناتور تيد كروز، إلى وقف إرسال المساعدات للبلاد بسبب فسادها وتسامحها مع الحزب.
على الرغم من أنّ لبنان نادراً ما يسلّم المجرمين المشتبه فيهم، كما رأى شينكر، فإنّه يمكنه محاكمة هؤلاء الأفراد وإدانتهم على أراضيه إذا طلبت دولة أجنبية ذلك وقدّمت ملفّات القضية
رأى شينكر أنّ العقوبات أداة مفيدة، إلا أنّها لا تستطيع حلّ مشكلة الإفلات من العقاب في لبنان. في الواقع، تجاهلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة بشكل متكرّر الضغط الأميركي والأوروبي.
دعا واشنطن إلى أن تستمرّ في تعزيز حكم القانون والتركيز على المساءلة بدلاً من التركيز على انتخاب من سيكون بلا شكّ رئيساً تنفيذياً ضعيفاً آخر. وأكّد وجوب أن تستمع محكمة أوروبية إلى حاكم البنك المركزي، حيث يمكنه أن يشرح نفسه بشأن السياسات والأشخاص الذين تسبّبوا بالأزمة المالية في لبنان، وأنّه يتعيّن على اللجنة الخماسية النظر في اشتراط سفر الوفد اللبناني إلى الجمعية العامّة للأمم المتحدة في أيلول بتسليم سلامة إلى فرنسا.
أكّد شينكر أخيراً أنّ مشكلة لبنان اليوم ليست قانون مناهضة تسليم المجرمين، بل في الإحجام المستمرّ عن الإصلاح والمساءلة. ففي حين تبدو محاكمة أعضاء الحزب خطيرة للغاية في الوقت الحالي، فإنّ تسليم المجرمين المشتبه بهم الآخرين هو أمر ممكن، ويجب على حكومة تصريف الأعمال الحالية في بيروت القيام به. وستكون هذه خطوة أولى متواضعة، لكن مهمّة، نحو جعل لبنان خاضعاً للمساءلة.
*ديفيد شينكر شغل منصب مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن. عمل سابقاً في مكتب وزير الدفاع كمدير شؤون دول المشرق، والمساعد الأعلى في سياسة البنتاغون الخاصة بدول المشرق العربي. وكان مسؤولاً في هذا المنصب عن تقديم المشورة إلى وزير الدفاع وكبار قادة البنتاغون حول الشؤون السياسية والعسكرية لسوريا ولبنان والأردن والأراضي الفلسطينية.