لطالما كان الحزب هو الجهة التي توزّع الاتّهامات بـ”الخيانة” يميناً ويساراً. كلّ من لا يوافقه الرأي يتدرّج في سلّم “التخوين”، من الحملات “الخفيفة” إلى “الثقيلة” على مواقع التواصل الاجتماعي، مروراً بالحملات السياسية، وصولاً إلى التهديد غير المباشر ثمّ المباشر.. وليس انتهاءً بالأذى الجسدي، بين “الأهل” و”البيئة الحاضنة” في أحيان كثيرة، وربّما الاغتيال الجسدي كحلّ نهائي.
لكنّ القبض على “عملاء” داخل بنية الحزب التنظيمية صار “موضة” موسمية، مستمرّة، ولا تتوقّف. وجديدها إلقاء شعبة المعلومات القبض على “عميل” تبيّن أنّ له مسؤولية “كبيرة” في “وحدة الرصد الإلكتروني”، أي أنّه أحد المسؤولين عن “حملات التخوين” التي يخوضها الحزب وجمهوره. وباختصار، هو واحد من الذين يقرّرون من هو العميل وكيف تجب مواجهته و”فضحه” والتحريض عليه… وربّما لاحقاً إصدار أحكام مبرمة بحقّه.
لم تكن الخيانة الوطنية يوماً وجهة نظر. ولا يُعاب على حزب الله اختراقه أمنيّاً من جانب إسرائيل. ما يحدث بين الجهتين من طبيعة “حرب الظلال” التي كانت منذ زمن منظمة التحرير الفلسطينية
يشبه هذا “المصير” مصائر “أسطورية” في حكايات خرافية، حيث يتبيّن أنّ “الكبير” و”الحاكم” هو الخائن، فيما يزجّ بالآلاف في المعتقلات ويقتلهم بحجّة أنّهم “خونة”.
من هو العميل إذاً؟
النقاش الذي يجب أن يخوضه الحزب داخل أروقته هو “أداء جيوشه الإلكترونية” التي لا تُبقي ولا تذر شيئاً من كرامات الناس، خصوصاً منهم أصحاب الرأي وقادته، ولا تتورّع عن تخوينهم. إصلاء هؤلاء حروباً لفظية تبدأ من تحديد أرقام هواتف الكُتّاب وصولاً إلى إبلاغهم بعناوين منازلهم صار يستدعي تدقيقاً بشخصية من يُولّى هذه المسؤولية، وذلك بعد تولية معنى التخوين مداه الأبعد في فهم العلاقة بين الفرد والقانون، وبين “المحاكم الحزبية” وحرّية التعبير اعتقاداً وكتابةً.
أمير زغيب المُتّهم بالعمالة لإسرائيل هو من تولّى خوض الحروب الإلكترونية على لحظة 17 تشرين الشعبية والسياسية. لم يترك موبقةً أو سفارة إلا وألصقها بالمتظاهرين. حتى إنّ حلفاء الحزب من أسامة سعد إلى شربل نحّاس طالهم “الحِرْم” الذي وضعه هذا الشخص، إضافة إلى حملات التخوين التي طالت ما طالت من حياتهم. وشارك البعض صوراً لواحدة من “غارات” حملت عنوان “شيعا شيعا شيعا” على خيم المتظاهرين في أيام 17 تشرين، وشبّهوا أمير زغيب بأحد الذين ضربوا الثوّار بالعصيّ.
لم يتوقّف “رئيس وحدة الرصد الإلكتروني” عند التدبيج والتخوين والتهديد، فصوره المبثوثة عبر وسائل التواصل الإلكترونية وهو يضرب مواطنيه اللبنانيين بعصا خشبية، لا لشيء إلّا لكونهم طالبوا بالعيش ضمن القوانين وتحت سقف الشفافيّة والمسؤولية المترتّبة على أهل النظام السياسي ورعاته، لا تبرّىء الحزب الآن ممّا فعله بدعوى أنّ العميل أمير زغيب فعل ما فعل ليغطّي عمالته لإسرائيل، على ما بدأ يُروى للعنِه من كلّ حدب وصوب. فهو يبقى أحد الفاعلين من كُتل بشرية لا تنهل إلّا من التفاهة وكانت غزواتهم بالعصيّ تحدث تحت هتاف “شيعا، شيعا، شيعا”.
الأرجح أنّه يجب أن تبقى عيون الحزب قلقة من هذه البيئة الأهلية، وليس من المثقّفين والكُتّاب والأفراد الذين قدّموا مواطنتهم وفرديّتهم على ولاء الجماعة القاهر، ذلك أنّ أفعال هؤلاء علانية، وليلهم للسهر والحياة وليس لزرع العبوّات والقتل بكواتم الصوت.
من الأكيد أنّ إسرائيل اخترقت وستخترق مجدّداً مناطق يتناسل أهلها من إيمان ديني وقناعة أيديولوجية مُشتركة. وهذا لا يُعاب على هؤلاء بصفتهم وقناعتهم الدينية. بل إنّ الخروقات الإسرائيلية التي حصلت وستحصل إنّما تهدف إلى إصابة الحزب
الخوف من “طعن الأهل”
المعنى من ذلك أنّ الحزب يجب أن ينظر بعين الريبة “والخشية من الطعن بالظهر” إلى الأقربين قبل الأبعدين. الرافضون للحزب وسياساته إنّما يفعلون ما يفعلون عبر الكتابة أو عبر تنظيم جماعات سلمية ديمقراطية.
وفعلة هؤلاء علانية لا يوجد شيء فيها من المواربة. وهي لا تحصل في السراديب والخنادق على ما يشابه أفعال الحزب غير المرئية الأمنيّة والعسكرية.
إذا كان هذا الاختراق يُسقط السذاجة السياسية التي تتحدّث عن تقاطع مصالح الحزب مع إسرائيل، إلا أنّه يُحيل على نقاش أعمق مع هذه الميليشيا العسكرية والأمنيّة ومشايعيها الذين لم يتركوا كلّ آخر في الرأي والموقع إلّا وتطاولوا على حياته الفردية والعامّة. بعضهم ناله ما ناله من شتائم. غيرهم كان الردّ عليه بالانفجارات وكواتم الصوت.
حسناً فعل الحزب بأن لجأ إلى الأجهزة اللبنانية فسلّم لها الفاعل الذي كُتِب له مديد العمر. ولو كان الأخير على قدر من البراعة الجاسوسيّة التي تؤهّله لنقل معلومات حسّاسة لكان الله وجهاز أمن الحزب فقط يعرفون قدره. من سبقوه وكانوا أكثر خبرة منه لم يروا الضوء منذ أُمسك بهم. بعضهم أُدرج في خانة المفقودين. غيرهم قضى نحبه “في مهمّات جهادية” في وقت لم يكن هناك حرب ولا من يحزنون.
الخيانة ورواياتها المُتهافتة
الحوار مع الحزب في أيّ شأن من شؤون البلد وأهله وقوانينه ودستوره لن يستوي قبل استوائه هو حزباً سياسياً من دون أنياب عسكرية وأمنيّة مزروعة في الجسدين اللبناني والعربي. لكن يبقى أنّ تبسيط البدل المالي للخيانة فيه ما فيه من السذاجة التي تدّعي استرخاص العميل وما يتقاضاه. روايات من هذا النوع متهافتة، والعمالة على رخص صاحبها مهما تقاضى يبقى إغراؤها الأوّل والأهمّ في البدل المالي. فالمتعامل لا يرمي إلى نيل الجنسية الإسرائيلية.
لكن حسناً فلنصدّق أنّه على امتداد سنوات تعامل المدعوّ أمير زغيب مع العدوّ الإسرائيلي لم يتقاضَ غير 10 آلاف دولار، وأنّه كان ينتظر مثلها وأكثر لتقديم معلومات عن أمين الحزب. التصديق على الرواية المبثوثة هنا من باب فرضية البحث ولا ينُمّ عن قناعة عقلية على أيّ وجه من الوجوه.
أيضاً وأيضاً، فلنترك صداقة العميل مع نجل الأمين العامّ للحزب، فهذا تدبير شديد الآصرة بالشؤون الشخصية للأفراد. وما دام الخرق ضرب عميقاً في جسد الحزب الأمنيّ للحزب، فالوصول إلى جواد نصر الله صار متيسّراً، ذلك أنّ الأخير يُشاع عنه انتقاله بين الناس في الأماكن العامة، وانشغاله العميق بوسائل التواصل الاجتماعي، حتى صار يتردّد على نطاق واسع أنّه هو من ينقل إلى والده ما يحصل من مكابدات الكراهية والعنف اللفظي والتخويني عبر هذه المنصّات.
المحاكم الحزبيّة وتخوين المعارضين
لم تكن الخيانة الوطنية يوماً وجهة نظر. ولا يُعاب على حزب الله اختراقه أمنيّاً من جانب إسرائيل. ما يحدث بين الجهتين من طبيعة “حرب الظلال” التي كانت منذ زمن منظمة التحرير الفلسطينية. ومثل هذا الاختراق، كالذي حصل مع المدعوّ أمير زغيب على ما شهرت به منصّات “افضح عدوّاً”، له سوابق وستكون له ملحقات.
من الأكيد أنّ إسرائيل اخترقت وستخترق مجدّداً مناطق يتناسل أهلها من إيمان ديني وقناعة أيديولوجية مُشتركة. وهذا لا يُعاب على هؤلاء بصفتهم وقناعتهم الدينية. بل إنّ الخروقات الإسرائيلية التي حصلت وستحصل إنّما تهدف إلى إصابة الحزب، وهذا لن يكون إلّا حيث تقيم هذه المنظمة العسكرية والأمنية مقرّاتها. لكن على أهل “الخيانة” أن “يروقوا شوي”. فالخونة ليسوا أولئك الذين يعلنون آراءهم، ويختلفون مع الحزب وقيادته علناً على مصير البلاد والعباد… الخونة في جيوبكم.. فاتّعظوا.