اللحظة اللبنانية الراهنة ليست لحظة التنازلات التي تنتج حلاً. فالداخل غير قادر على فرض خياره على الخارج إلا شكلاً، لأن لبنان يحتاج إلى خيار يفكّ الحصار المفروض عليه من الغرب وبعض العرب. والخارج الذي يستطيع أن يهدّد ويتوعّد، غير قادر على تمرير حل من دون توافقات داخلية كبيرة، وبالتالي، لم تعد المعضلة الرئاسية رهن اتفاقات جانبية. وبما أن المقدّمات لا تقول بأن في لبنان غالبية معقولة تريد انتهاج سياسات خارجية واقتصادية مختلفة، فنصيبنا هو الفراغ، في انتظار لحظة إقليمية تتقاطع مع لحظة داخلية فيكون الحل.
إعلان فرنسا، بلسان موفدها الرئاسي جان إيف لودريان، الذي فشل في محاولة تمرير سليمان فرنجية رئيساً، عدّل في أدوات المعركة لا في وجهتها. كان الداعمون لفرنجية يسعون إلى توفير عدد من الأصوات له يتجاوز الـ 75، وهو خيار يحتاج إلى تفاهمين كبيرين، واحد مع جبران باسيل وآخر مع وليد جنبلاط. لكنّ المساعي التي قادها حزب الله والرئيس نبيه بري لم تحقّق المطلوب. فيما لم تنجح فرنسا في الحصول على أي تغطية فعّالة من الولايات المتحدة أو السعودية.
*اللحظة اللبنانية لا تتيح تسوية من دون موافقة الخارج، لكنّ غالبية داخلية توفّر ضمانة لعهد أكثر استقراراً*
بعد إعلان لودريان، تحمّس القطريون للعب دور الوسيط، وعاد الجميع إلى متاريسه السابقة. صحيح أن الفريق الداعم لفرنجية لا يحتاج إلى مناورة لتثبيت موقفه، لكنّ الفريق المعارض لفرنجية يحتاج إلى صيانة لمشروع التقاطع، لأن اسم جهاد أزعور لم يعد صالحاً للاستخدام، والرجل نفسه بدأ يشعر بتعاظم الضرر الذي يصيبه جرّاء استمرار الأمر على حاله، وهو قد يكون مضطراً للقيام بخطوة في حال لم يبادر المتقاطعون إلى وضع إستراتيجية منطقية، خصوصاً أن أزعور يعرف الوقائع بصورة جيدة، ويدرك أن تحوّله إلى مرشح مواجهة مع الفريق الآخر، يسقط عنه صفة «رجل المهمة الوطنية» كما كان يفترض لنفسه.
لكنّ مشكلة فريق التقاطع تكمن في فقدان البديل، لذلك، يواصل هؤلاء الحديث عن بقاء أزعور مرشحاً، ولكلّ حساباته: البطريرك الماروني لا يريد الوقوع مجدّداً في وحول الترشيحات، وسمير جعجع يريد مقايضته بفرنجية، وجبران باسيل يريد أن يكون أزعور عنوان الإطاحة بكل مرشحي الفئة الأولى: أزعور وفرنجية وجوزيف عون أيضاً!
لا تملك قطر قدرة الادّعاء بأنها مفوّضة من دول اللجنة الخماسية. لكنها تحظى بدعم أميركي جدّي، ولا ممانعة مصرية، وغضّ طرف سعودي، حتى «النقزة» الفرنسية لا تمنعها من المبادرة. لكنّ الدوحة لاعب في الفريق الأميركي، وقدرتها على تدوير الزوايا لا تتجاوز حدود استعمال المغريات المسهّلة لاتفاق يحقّقه آخرون. وما تملكه قطر اليوم هو أنها تمسك بورقة «إعلان الفشل الفرنسي» وبـ«الموقف الأميركي – السعودي المتشدّد»، وهي فوق ذلك قادرة على تمويل العملية برمّتها: تبدي استعداداً لدفع ثمن انسحاب سليمان فرنجية. وتمويل تأييد جبران باسيل وكتل نيابية كثيرة لاختيار بديل لا يعارضه حزب الله، وتقديم مساعدة مالية في قطاع أساسي يعاني منه لبنان.
لكن، كيف يمكن لقطر أن تفرض اسماً توافقياً؟
حتى اللحظة، يعرف القطريون، كما فرنسا ودول الخارج، أن ثمن انسحاب فرنجية من السباق لا يتعلق بتسوية شخصية معه، بل بصفقة تخصّه من جهة، لكنها تخصّ بشكل أكبر القوى الداعمة له، وحزب الله على وجه التحديد. والحزب، هنا، ليس بحاجة إلى دولارات الدوحة، ولا إلى رضى وزارة الخزانة الأميركية، ولا هدنة لفظية من قناة «العربية». بل يحتاج إلى من يلبّي الشرط الذي وجده متوفراً في شخص سليمان فرنجية، أي ضمان عدم طعن المقاومة في الظهر. وهو عندما وافق على مبادرة سليمان فرنجية – نواف سلام، كان يعرف ما الذي يريده. أما في حال الإطاحة بفرنجية، فإن المعادلة كلها ستسقط، وعندها سيكون المرشح لرئاسة الحكومة، كما تشكيلة الحكومة وتوزيع الأدوار فيها، ساحة لمعركة كبيرة يخوضها حزب الله، وأي انقسام جدّي حول الحكومة المنتظرة، يمكن أن يعطّل العهد الجديد من اليوم الأول، وعندها يكون من وصل إلى القصر الجمهوري قد فاز بلقب فخامة الرئيس لا أكثر.
*إذا طار فرنجية سيأتي رئيس ضعيف وتنتقل المعركة إلى اسم رئيس الحكومة وطريقة توزيع مقاعدها*
في الموازاة، لا يبدو أن الرئيس نبيه بري مستعدّ هو الآخر لبيع مرشحه بأيّ ثمن. ومهما كثر الكلام عن خشيته من فرض عقوبات أميركية على مقرّبين منه، أو شن حملة أوروبية ضده، يعي بري أن المهمة المنوطة بأيّ رئيس جديد تحتاج إلى توافقات يومية معه، كما هي حال أي رئيس جديد للحكومة، وبالتالي، فإنه لا يجد أن الوقت قد حان لإدخال تعديلات جوهرية على إستراتيجيته، وإن كان -كما جنبلاط وفرنجية نفسه – في موقع من يقدر على أفعال تصبّ كلها في خانة إضعاف خصومهم الداخليين، من سمير جعجع إلى جبران باسيل. حتى إنه صار يتردّد في صالونات هؤلاء بأنه في حال انسحاب فرنجية، فإن الثلاثة، سيصوّتون لمرشح لا يريده جعجع وباسيل أو يخافان منه، مع إشارة مباشرة إلى اسم قائد الجيش العماد جوزيف عون. علماً أن الأخير، وإن كان سعيداً بالأخبار عن تعثّر مبادرة إيصال فرنجية، إلا أنه بات يخشى أن يكون رأسه هو أول أثمان التنازل عن فرنجية.
بذلك، نعود إلى النقطة التي تتعلق بموقف باسيل. صحيح أن معادلات كهذه تعطي دوره وموقفه وزناً كبيراً، إلا أن الثمن لم يعد كما كان عليه سابقاً. بمعنى، أنه بعدما رهن قبوله بفرنجية بإقرار اللامركزية الإدارية والصندوق الائتماني، فهو قد تخلّى عن «عرض الضمانات» الذي قدّمه له السيد حسن نصرالله في بداية النقاش حول الملف الرئاسي. يومها، كان بمقدور نصرالله القول بأنه يمون على بري وفرنجية للسير معه في «عرض الضمانات». إلا أن الظروف تغيّرت، وبات على باسيل أن يدرك جدياً أن قواعد اللعبة تغيّرت، وأن بري وفرنجية ومعهما آخرون، لن يقبلوا بمقايضة دعمه فرنجية بأدوار تشكل مصدر إزعاج لهم لاحقاً. لذلك، ربما يجد هؤلاء، ومعهم جنبلاط ومستقلون، أن ما يناسبهم، هو بالضبط من لا يناسب باسيل، وليتمتع الأخير بجنّة المعارضة.
المعروض الآن، وفق فرضية انسحاب فرنجية، خيارات لا تناسب باسيل على وجه الخصوص:
– إما صياغة تفاهم يوصل قائد الجيش إلى القصر الجمهوري، ما يعني خسارة كبيرة للتيار الوطني الحر.
– أو نجاح الخارج في ترتيب تسوية بين حلفاء السعودية وغالبية إسلامية وازنة تأتي برئيس يكون خصماً أكيداً للتيار، ولو لم يكن حليفاً أكيداً للآخرين. وفي هذا خسارة إضافية لباسيل.
– أو تسوية تقوم على فكرة «الرئيس الضعيف» الذي لا يشكل خطراً لا على مصالح التحالف الإسلامي بكل عناصره، ولا يشكل بعبعاً بوجه القوى المسيحية ذات الوزن. وفي هذا الخيار إضعاف جديد للرئاسة الأولى، وهو ما قد ينسحب على أمور كثيرة في بلد تتغيّر فيه موازين القوى بصورة متسارعة، وهذا ما يوجّه ضربة كبيرة إلى تصورات باسيل.
عملياً، وفي ظل امتناع أكيد من جانب حلفاء حزب الله عن السير بمرشح (غير فرنجية) يكون على هوى باسيل، فإن دعوة رئيس التيار لحزب الله وحلفائه إلى الاتفاق على اسم جديد، فقدت قوتها. ما يعني، أنه بقيت هناك فرصة وحيدة لإعادة إنعاش المبادرة الفرنسية، من خلال انضمام باسيل وجنبلاط ومستقلّين إلى الفريق الداعم لفرنجية، ونجاح هذه الفرصة رهن بباسيل وحده: فهل يريد اختيار صفقة جوزيف عون ليحصد جوائز خارجية أولاً، أم أنه يريد التنازل جزئياً ويسير بفرنجية فاتحاً الباب أمام دور من نوع مختلف، أم أنه فعلياً يريد خوض مغامرة الخروج من السلطة نهائياً…؟ وفي هذه النقطة، لم يعد التحايل على الوقائع نافعاً ولا التشاطر على شكل مناورات، لأن النتيجة ستكون بأن يمضي باسيل العهد المقبل لاجئاً إلى لعبة التقاطعات بالمفرق!