تعرف الحروب والمعارك هدناً واستراحات محاربين، لكنّ الهجوم الإسرائيلي الذي يتعرّض له قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي لا يندرج في هذه الخانة. الحالة مختلفة تماماً، المواجهة ليست بين جيشَي دولتين، بل بين قوات احتلال مدجّجة ومعزّزة بدعم دولي رسمي هائل، وبين أهل غزة الذين توزّعوا فوق الأرض وتحتها، مقاومين مسلّحين، وحاضنة شعبية لا يرهبها قتل، ولا يفتّ في عضدها تجويع وتدمير.
بين المقاومة وجند الاحتلال، تدور رحى المعركة، تشتعل وتتوسّع، ولا بارقة أمل تلوح وتشي باحتمال توقّفها، بل يشتدّ أوارها، ويلفح حتى أولئك المنشغلين في لقاءات قمّة إقليمية ودولية يجهدون في بحث كيفية إدخال الماء والغذاء والوقود إلى قطاع غزة تحت نيران قصف المقاتلات والدبّابات الإسرائيلية، إن سمحت إسرائيل بذلك.
إسرائيل لا ترى في الفلسطينيين خصماً ينازعها الأحقّية على الأرض والسيادة والحقّ في تقرير المصير، بل ترى فيهم مجموعة سكانية طارئة على أرض إسرائيل، وعادوا يشكّلون خطراً وجوديّاً عليها
هي إذن معركة لا تحكمها قواعد اشتباك تقليدية، ولا تخضع لقوانين رسمتها معاهدات واتفاقات دولية يعيد تلاوة بنودها وتفاصيلها مسؤولون وناشطون يعتلون منصّات أنيقة، بعيدة عن ميدان القتل والتدمير، ولا يصيبهم منها غبار ركام أو دم مسفوك. ولأنّ مقاربة إسرائيل للفلسطينيين لا تخرج عن حدود اتّهامهم بأنّهم مجموعة طارئة تريد محوها من الوجود، فإنّها تخشى مجرّد الإيحاء بأنّها يمكن أن تتراجع أمام ضربات مقاومتهم، بل إنّها تعتقد أنّ لها الحقّ، كلّ الحقّ في مواصلة حربها عليهم، سواء أعلنت هدنة أم لم تعلن.
إصرار المقاومة على شروطها
في المقابل، تبدي المقاومة الفلسطينية ثباتاً كبيراً، وقدرات غير مسبوقة على الهجوم تنفّذها أيادٍ مدرّبة، صقلتها تراكمات خبرة عقود طويلة في مواجهة الاحتلال لدرجة أنّها باتت تفرض شروطها على مواقيت المعركة، وإيقاعها، وأكثر فأكثر على لغتها وخطابها. ربّما كانت شروط المقاومة أكثر ما يثير إسرائيل ويرفع غيظها، لا سيما أنّها ما زالت تصرّ على أنّ هدف عدوانها على قطاع غزة يتمثّل أساساً في القضاء على المقاومة مرّة وإلى الأبد، بل إنّ رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو يظلّ يكرّر أنّه لا يمكن الحديث عن وقف إطلاق نار، دون أن يطلق المقاومون سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، عساكر ومستوطنين.
يتعلّق الأمر بالسلوك، سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين القائم ليس على مفهوم الندّية، وإنّما على الدونيّة. إسرائيل لا ترى في الفلسطينيين خصماً ينازعها الأحقّية على الأرض والسيادة والحقّ في تقرير المصير، بل ترى فيهم مجموعة سكانية طارئة على أرض إسرائيل، وعادوا يشكّلون خطراً وجوديّاً عليها. أدلّة ذلك عديدة في المواجهة الحالية وسابقاتها، لا سيما قتل الأطفال والنساء، وهدم المساكن والمدارس والمستشفيات والجامعات، وتدمير البنى التحتية، كلّ ذلك مصحوباً بدعوات رسمية ومدنية إلى إحراق القطاع وإلقاء قنبلة ذرّية عليه، فضلاً عن وصفهم بالحيوانات البشرية، وأنّهم أسوأ من داعش.
بدورها تدرك المقاومة الفلسطينية ذلك جيّداً، وهي بعدما اتخذت قراراً استراتيجياً مصيرياً في هجومها غير المسبوق على مستوطنات محيط غزة في السابع من أكتوبر الماضي، فإنّها تكون قد حطّت على درب جديد يشكّل ذروة تاريخ المقاومة الفلسطينية، وسيكون من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً عليها، الرجوع عنه.
تشير كلّ التوقّعات إلى قرب التوصّل إلى هدنة. وعلى ما يبدو وفق معطيات وظروف المواجهة الدائرة في غزة، فإنّها لن تكون على مقاس إسرائيل كما كانت دوماً. لم يعد الحديث ولا الأفعال تعكس لعبة عضّ على الأصابع، وإنّما حلبة تكسير رؤوس
خلاف بايدن – نتانياهو
في حديث الهدنة خلال الأيام والأسابيع الأخيرة ما يحمل ترجمة عملية لهذا التطوّر. تضاربت التقارير وحتى التصريحات حول إمكانية الإعلان عن هدنة، وتحدّثت صحف أميركية عن “توتّر” كبير بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو حول الموضوع.
في حين أنّ بايدن كرّر في أكثر من مرّة أن لا حديث عن وقف لإطلاق النار، وأنّ إدارته تسعى بشكل رئيسي إلى إطلاق سراح المحتجزين دون أيّ اعتبار لاستمرار قتل الفلسطينيين في قطاع غزة، ظلّت إسرائيل تتحدّث عن إمكانية تحقيق هدنة، وفي الوقت نفسه تصرّ على إطلاق سراح جميع الأسرى الذين تحتجزهم المقاومة. وفي غضون ذلك واصلت هجومها البرّي والجوّي والبحري على القطاع. فأخرجت جميع المسشفيات في شمال غزة من الخدمة، وأصبح نحو 900 ألف فلسطيني بدون أيّ وسيلة لتلقّي الرعاية الصحّية في ظروف حرب مدمّرة.
بينما إسرائيل ترسل وتستقبل مبعوثين خاصّين بالتوصّل إلى هدنة، فإنّها واصلت أيضاً قتل الأطفال والنساء في المنازل، وفي مراكز الإيواء والمدارس، وارتفع رقم الضحايا المدنيين إلى أكثر من 12 ألفاً. بعدها سمحت بإدخال محدود للمساعدات والوقود إلى جنوب غزة الذي ظلّت تدّعي أنّه منطقة آمنة في حين واصلت قصفه وتدميره والتحضير لاجتياحه برّياً.
تكسير رؤوس… وليس عضّ أصابع
من جانبها، أظهرت المقاومة، حسب ما أوردت وسائل إعلام وتصريحات مسؤولين، قدرات عالية في إدارة مفاوضات الهدنة، وأكّدت أنّها تستطيع التعامل بالمثل كما تبيّن من خلال تراجع إسرائيل أكثر من مرّة عن الإصرار على رفع أعداد الذين سيشملهم الإفراج في مقابل عدد الأسرى الفلسطينيين الذين تطالب المقاومة بإطلاق سراحهم، إضافة إلى كيفية تنفيذ عملية الإفراج على الجانبين. ولم تغفل المقاومة في الوقت نفسه عن تصعيد هجماتها ضدّ القوات الإسرائيلية التي توغّلت داخل غزة.
في الخلاصة، انتصرت “حماس” بأن فرضت تبادلاً للأسرى، ووقفاً لإطلاق النار لأربعة أيام كانت تعتبره إسرائيل مستحيلاً، وأجبرت إسرائيل على الإفراج عن أضعاف ما ستفرج عنه الحركة من رهائن إسرائيليين. وهذا أوّل الطريق، إذ ما زال هناك أضعاف من أفرجت عنهم.