منذ بداية «طوفان الأقصى» إتّسم تعامل إيران مع هذه العملية باعتماد المصلحة الإيرانية الواضحة كأولوية على كلّ ما عداها من الشعارات ومنها نصرة غزة، وشعار نحو القدس. كما أنّ فتح جبهات التحريك جاء تحت عنوان تخفيف الضغط عن غزة لكنّه في الحقيقة شكّل الطريقة الإيرانية للتفاوض مع الإدارة الأميركية وبدء بازار المفاوضات حول مصالح ونفوذ طهران في المنطقة العربية، وهذا ما فعله الأمين العام لـ»حزب الله» في كلمته الأخيرة عندما تحدّث عن إمكانية تحقيق ما وصفه بالفرصة التاريخية لتحرير الأرض ووقف الانتهاكات والاعتداءات الاسرائيلية، وربط أي نقاش في ملف الحدود وتسويتها مؤجل إلى ما بعد وقف إطلاق النار على غزة.
بدا الخطاب الأخير للأمين العام لـ»الحزب» تائهاً بين إقناع اللبنانيين بأنّه رغم كلّ الدمار والخسائر، يراعي مصالحهم من خلال التزام قواعد الاشتباك وبين اعتباره أنّ فتح الجبهة لم يكن من أجل تحرير ما تبقى من أراضٍ لبنانية محتلة، بينما لم يبقَ من دعم غزة سوى ربط استمرار تحريك جبهة الجنوب بإنهاء العدوان على غزة وللثأر للراحل صالح العاروري.
أمّا سرّ الضياع في خطاب «حزب الله» وسلوكه فهو أنّه يريد الاحتفاظ بهالة وذريعة المقاومة للإبقاء على سلاحه ضدّ الداخل، وهو في طريقه لعقد تسوية واتفاقات دائمة تضمن أمن الحدود مع الكيان الإسرائيلي على وقع اشتباكات تلتزم قواعد الاشتباك ولا تخرج عنها ولو ضرب الإسرائيليون عمق الضاحية ولو قتلوا أعلى القيادات في الحزب، فإنّ القرار سيبقى التزام الانضباط وإعطاء الأولوية للمفاوضات الإقليمية التي تديرها إيران مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع تسجيل تقاطع المصالح بينهما في انتخابات الرئاسة الأميركية على ضرورة منع الرئيس السابق دونالد ترامب من العودة إلى البيت الأبيض، إضافة إلى الأجندة الديمقراطية المؤيدة تقليدياً لإيران على حساب العرب.
الالتزام بعدم توسيع الحرب مهما كان مستوى الشخصيات المستهدفة من «الحزب»، واستطراداً «الحرس الثوري» و»حماس» و»الجهاد»، تلقته العواصم التي تعمل على أعمال التفاوض من الدوحة ومسقط إلى باريس وبرلين، وعلى هذا الأساس بدأت مرحلة جديدة من التفاوض شهدت خرقاً متقدِّماً تمثّل بتكليف الإدارة الأميركية موفداً هولندياً بالقدوم إلى لبنان والاجتماع بقيادة «حزب الله». وهذا ما جرى في الأسبوعين الأخيرين وكان النقاش حول تثبيت قواعد الاشتباك والبحث في «اليوم التالي» للحرب على غزة لبنانياً، ليمثِّل ذلك بداية مسار أكثر عمقاً في تطوّر العلاقة بين واشنطن والحزب الذي روّج أنّه كان وراء تأخير قدوم الموفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى لبنان نظراً لحساسية الموقف!
لم يعد خافياً أنّ «حزب الله» يطرح سلّة مكتسبات يريد تثبيتها في إطار استكمال وضع اليد على لبنان. فـ»الحزب» يعتبر أنّ الأولوية هي تعزيز عناصر الاستقرار وهذا يعني تجاوز شروط الإصلاح التي تطرحها اللجنة الخماسية والعودة إلى تمويل المنظومة لتمكين تحالف السلاح والفساد من الاستمرار في الحكم، وتحت هذا السقف تأتي مقاربة ملف الحدود وتصفية نقاط الخلاف حولها وإعادة التنقيب عن النفط من جديد في البلوك 9 بعد تحديد نقطة حفر جديدة إضافة إلى العمل في البلوكين 8 و 10 بمعنى أن تكون مقدّرات الدولة النفطية إحدى جوائز الترضية لـ»الحزب» وشركائه في الحكم.
أما رئاسة الجمهورية، فإن بعض قيادات فاعلة في «الحزب»، كما يقول بعض من يلتقيها، اعتبرت أنّ الرئاسة تحصيل حاصل والنقاش يجب أن يشمل الاتفاق على رئاسة الحكومة وتركيبتها بينما كان لافتاً صدور تصريحات فرنسية ترفض أن يحصل «حزب الله» على مكافأة في النظام السياسي اللبناني.
إعتبر الكثيرون أنّ موقف الأمين العام لـ»الحزب» تطوّر هام لأنّه يشكل مفتاحاً للوصول إلى حلول دائمة، وغاب عنهم أنّ هذا تسليم بأنّ القرار بيد «حزب الله». وكان لافتاً تركيز الرئيس نجيب ميقاتي على إعادة الاعتبار لاتفاق الهدنة وهذا إيجابي، والتقاؤه مع موقف «الحزب» على ربط وقف تحريك جبهة الجنوب بانتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، وهنا توقف مراقبون عند هذا الربط فوجدوا أنّ المسألة مرتبطة بعاملين:
ــ الأول: إنضاج ملف التسوية الحدودية على المستوى الداخلي اللبناني وتهيئة الجمهور عبر شعاراتٍ ومرحلة انتقالية وتأمين سلوك الخطوات الرسمية طريقها المرسوم.
ــ الثاني: مواكبة الحركة الإيرانية في التفاوض الإقليمي، فلن يسبق «لبنانُ الحزب» طهرانَ في خطواتها، وعلى اعتبار أنّه مع انتهاء الحرب على غزة ستكون الصورة في الإقليم قد وضحت، فيمكن عندها الانخراط في التسوية.
الواضح الآن أنّ قناة التفاوض الأميركية مع «حزب الله» قد فُتحت والأدوار الأوروبية مكمِّلة لها، لكن يبقى السؤال الأساس هو أنّه إذا استقرّ وضع الحدود في اتفاق تسوية مع الكيان الإسرائيلي مع عودة الحديث عن دعم الجيش اللبناني لتمكينه من تطبيق القرار 1701 ماذا يبقى من دور لسلاح «الحزب»؟