كان ذلك في عام 2005. سَمع “الاشتراكيون” وليد جنبلاط يتحدّث همساً، للمرّة الأولى، عن نيّته “تحرير” رئاسة الحزب قريباً من “قبضة المختارة”. كثر لم يحملوا كلام الزعيم الدرزي محمل الجدّ. بيت “المعلّم” لا يستوعب هذا القدر من الديمقراطية الطافحة. أصلاً ليس في سلوك جنبلاط الحزبي أو السياسي ما يوحي بتنازله بسهولة عن التاريخ والمكاسب. آنذاك لم يكن أحد يسمع أو يتوقّع “ربيع” الثورات العربية.
لم تتأخّر الترجمة “الشكلية” كثيراً. في الجمعية العمومية لـ “الحزب الاشتراكي” في تشرين الأول 2011، حين كان عمر الأزمة السورية قد بلغ نحو ثمانية أشهر، وضع جنبلاط حزبه على سكّة التغيير المفترض بإعلانه صراحة نيّته التنحّي عن رئاسة الحزب في الانتخابات الحزبية المقبلة، قاطعاً الطريق على جلوس نجله تيمور مكانه لأنّ “الوراثة منشيلها من ذهننا”. أمّا في شأن مقعد البيك النيابي وزعامة المختارة فكان جواب جنبلاط آنذاك واضحاً: “هي شأن خاصّ يُطرح في مكان آخر”.
“البيك” المفتون آنذاك بـ “تسونامي” التغيير في المنطقة وصولاً إلى أبواب دمشق دعّم قراره بإطلاق رزمة إصلاحات داخلية تُرجمت في الاجتماع الذي عقدته “جمعية المرشدين” في الحزب الاشتراكي في تشرين الأوّل 2012 وتمّ خلاله التصديق على دستور الحزب الجديد.
عضوية “المرشدين” تسمح لأعضائها بالترشّح إلى مجلس القيــادة ثمّ إلى رئاسة الحزب. لم يفِ جنبلاط بوعد التخلّي عن رئاسة الحزب وقطع نَسل الوراثة. تأجيل وراء تأجيل إلى أن فاز بالتزكية بالرئاسة خلال انعقاد “المؤتمر العامّ” في شباط 2017.
المصيبة الفعليّة التي يتخوّف منها جزء من مسؤولي الحزب أن لا يتمكّن “الاشتراكي” بقيادة تيمور جنبلاط من كسر نمطية الأحزاب التقليدية التي على الرغم من كلّ نفحات التغيير التي قد تدخل على أنظمتها الداخلية
الوراثة أوّلاً
مرّ 12 عاماً قبل أن يتخلّى وليد جنبلاط رسمياً عن رئاسة الحزب حين قدّم استقالته قبل أيام داعياً إلى مؤتمر عامّ انتخابي في 25 حزيران المقبل، لكنّه لم يتخلَّ عن “الوراثة” العاجز عن أن “يشيلها من ذهنه” استكمالاً لتقليد إلباس جنبلاط في 19 آذار 2017 نجله تيمور عباءة الزعامة الدرزية في الذكرى الأربعين لاغتيال كمال جنبلاط، ثمّ “وراثة” تيمور مقعد والده النيابي في انتخابات 2018 التي نال فيها أعلى صوت تفضيليّ في الشوف.
لم يكن سهلاً على جنبلاط هَضم التحوّلات الإقليمية الدولية الهائلة من بكين إلى دمشق التي تشهد إعادة فتح السفارة السعودية، وما بينهما رؤية بشار الأسد عائداً بدفع عربي-سعودي إلى مقعد سوريا في الجامعة العربية ومقعد “المفاوضين” على ستاتيكو المنطقة وتوازناتها المستقاة من دروس الحروب الكبرى على مدى 12 عاماً. همّ توفير مظلّة الردع لتيمور يفوق كلّ هموم وليد جنبلاط.
منافسة ديمقراطيّة؟
وفق النظام الداخلي للحزب يَبتّ المؤتمر العامّ الذي دعا إليه الزعيم الدرزي في حزيران استقالة البيك من رئاسة الحزب، إمّا يقبلها وتتمّ الدعوة إلى انتخاب الخلف أو يرفضها.
فعليّاً، قُدّمت استقالة “البيك” كي تُقبل وتُمهِّد لانتخاب تيمور جنبلاط رئيساً للحزب مع “تجديد البيعة” عند كلّ استحقاق انتخابي وسط طامحين كثر للرئاسة بعدما لَعِب جنبلاط قبل سنوات على “حَبل” الكلام وأوحى للاشتراكيين أنّ القيادة يمكن أن تؤول إلى أيّ “رفيق” في الحزب.
لكن يَصعب توقّع حدوث منافسة ديمقراطية بين تيمور ومُرشّح “انتحاري”. لا شيء في تاريخ العائلة الجنبلاطية والحزب الاشتراكي يسمح بمشهد خارج مألوف جميع الأحزاب التقليدية وأحزاب العائلة. قضى وليد جنبلاط 42 عاماً على مقعد رئاسة الحزب ويمكن توقّع مدّة مماثلة لنجل البيك إلا إذا قرّر الأخير إثبات ما يردّده دوماً بأنّه حامِل “جينات التغيير والتمرّد على الأمر الواقع”.
من هم المرشّحون الطبيعيّون للرئاسة؟
وفق النظام الداخلي، كلّ عضو في مجلس القيادة يحقّ له الترشّح لرئاسة الحزب. عام 2011، من ضمن إجراءات البيك الاستباقية، عيّن تيمور عضواً في المجلس.
يتألّف مجلس القيادة حاليّاً بعد الانتخابات الأخيرة عام 2017 من ريما صليبا، غيتا ضاهر، بهاء أبو كروم، سرحان سرحان، عفراء عيد، ياسر ملاعب، طارق خليل، وليد صفير، طانيوس الزغبي، خضر الغضبان، وليد خطار، لما حريز، ميلاد السيد، ربيع عاشور، وأحمد مهدي. وعيّن جنبلاط في مجلس القيادة رفيق حسين الدرويش، خالد صعب، نشأت الحسنية، محمد بصبوص، وجهاد الزهيري. ويومذاك أُعلن فوز كلّ من وليد جنبلاط ونائبَيْ الرئيس دريد ياغي وكمال معوّض وأمين السرّ العامّ ظافر ناصر بالتزكية.
ينضمّ النوّاب من حاملي البطاقة الحزبية تلقائياً إلى مجلس القيادة، وهم تيمور جنبلاط، وائل أبو فاعور، فيصل الصايغ، هادي أبو الحسن، أكرم شهيّب، وبلال عبدالله.
قضى وليد جنبلاط 42 عاماً على مقعد رئاسة الحزب ويمكن توقّع مدّة مماثلة لنجل البيك إلا إذا قرّر الأخير إثبات ما يردّده دوماً بأنّه حامِل “جينات التغيير والتمرّد على الأمر الواقع”
توقيت الاستقالة
يقدّم وليد جنبلاط وحده إجابات شافية عن توقيت الاستقالة وترئيس تيمور ضمن مهلة زمنية قصيرة فاصلة عن حزيران ستكون مشبعة بمؤشّرات الصدام-الانفجار الكبير أو بدء مؤشّرات تنفيس الأزمة وسلوك مسار الحلّ الشامل.
يبدو جنبلاط كمن يُبعِد نفسه بالكامل عن ملعب المقرّرين لينشغل بمطبخه الداخلي بهدف ضمان الانتقال السلِس لكلّ “عُدّة” الزعامة إلى نجله تيمور الذي يختبر حاليّاً أولى معاركه السياسية بالسلاح “الثقيل”: رفض انتخاب سليمان فرنجية، مرشّح صديق والده نبيه برّي لرئاسة الجمهورية.
إقرأ أيضاً: جنبلاط يقفز من القطار السعودي السوري
“الوالد مكفّي وموفّي”
في أوّل تغريدة لتيمور في تشرين الثاني 2017 دشّن فيها دخوله عالم التواصل الاجتماعي بعدما سبقه جنبلاط بسنوات مازح والدَه قائلاً: “هذا حسابي الخاصّ. لكنّ الوالد مكفّي وموَفّي. سنحاول تنسيقَ خطّة سويّاً على كيفية إدارة هذه المصيبة”.
المصيبة الفعليّة التي يتخوّف منها جزء من مسؤولي الحزب أن لا يتمكّن “الاشتراكي” بقيادة تيمور جنبلاط من كسر نمطية الأحزاب التقليدية التي على الرغم من كلّ نفحات التغيير التي قد تدخل على أنظمتها الداخلية تُبقي دوماً “الرأس” متحكّماً باللعبة والآمر الناهي فيها في ظلّ قاعدة حزبية لم تخرج بعد من عباءة التبعيّة للبيك و”ابن البيك”.
أبعد من ذلك يقول مراقبون إنّ “ترئيس تيمور لا يعني بالضرورة ابتعاد وليد جنبلاط عن ملعب الإمرة والتوجيه، وخصوصاً في سياق الاستحقاقات السياسية الداهمة التي رئاسة الجمهورية تفصيل صغير فيها”.