كلُّ قراءة سياسيّة لتحوّلات المنطقة بلا المرور بشخصيّة وليّ عهد السعوديّة الأمير محمد بن سلمان تبقى قاصرة. فكلّما ظنّ البعضُ أنّه قادرٌ على توقُّعِ أفعالَ أو ردودَ أفعالِ الملك المُقبل، يُناقَضُ الفعلُ الظنَّ، فتتعاقب المفاجآت، ومنها، وليس آخرها، المصالحة الكُبرى مع القيادة السوريّة، ودعوة الرئيس بشّار الأسد إلى قمّة جامعة الدول العربيّة في جدّة، حيث من المتوقّع أن يصل قبلها بأربعٍ وعشرين ساعة.
قيل وسيُقالُ الكثير عمّن مهّد وساهم وتوسّط، وعن ظروفٍ وتحوّلات إقليميّة ودوليّة، وعن حسمٍ عسكريّ غيّر المعادلات، لكنّ القرار المركزي كان هُناك، داخلَ أروقةِ أحد القصور الملكيّة، وتمّ تخريجُه عبر حركةٍ دبلوماسيّة سعوديّة ناشطة، ذلّلت العقبات، وأقنعت المتردّدين، وأحرجت الرافضين.
لم يكن من قبيل الصُدفة أن يتحدّث وزير الخارجية السعوديّة الأمير فيصل بن فرحان، ثلاثَ مرّاتٍ مُتتالية في الاجتماع الوزاري الأخير في القاهرة والذي أقرّ عودة سورية إلى مقعدها في الجامعة، فهذا الدبلوماسي النشط، الذي ترعرع في ألمانيا وخَبرَ السياستين الأوروبيّة والأميركيّة عن قُرب، كان لولب اجتماع القاهرة، وكانت تعليمات وليّ العهد له واضحة المعالِم حيال طيّ الصفحة السوريّة.
وُصِفَت إصلاحاتُ الأمير محمد في الداخل السُعودي بأنّها ثورةٌ من فوق، في موازاة ربيعٍ عربيّ تحوّل الى خريف دموي بفعل التدخّلات الخارجية في أكثر من دولةٍ عربيّة، فالرجلُ خلخلَ كلَّ ما كان يُعتبر من الثوابت غير القابلة للتغيير: المفاهيم الوهّابية، حقوق النساء ودورُهن، الثقافة والفنّ، النظام التعليمي، العلاقة مع واشنطن، البحث عن بدائل للنفط…ألخ. والاَن يُمكن وصفُ ما يجري على المستوى الخارجيّ، بالثورة الدبلوماسيّة، أكان ما تعلّق منها بالعلاقة الاستراتيجيّة مع الصين حيث التبادل التجاريّ يقارب ال 100 مليار دولار، أو الاتفاق مع إيران في قلب الصين، أو المصالحة مع الأسد، وتصفير المشاكل مع تركيا، وانهاء حرب اليمن.
وُصِفَت إصلاحاتُ الأمير محمد في الداخل السُعودي بأنّها ثورةٌ من فوق، في موازاة ربيعٍ عربيّ تحوّل الى خريف دموي بفعل التدخّلات الخارجية في أكثر من دولةٍ عربيّة
رفعَ الجمهوريّون الأميركيّون بقيادة جو بايدن مستوى التهديد والصلَف في وجه الأمير. قال سيّدُ البيت الأبيض قبل أن يصلَ إليه، إنّه سيحوّل السعودية الى ” دولة منبوذة”. ردّ الأمير في حوارات تلفزيونيّة ومنتديات دوليّة، بأنّه لن يقبلَ تدخّل أيّ دولة وبأنّ اقتصاد أميركا انتعش تاريخيًّا بفضل عقود النفط مع السعوديّة، ووسّع مجال علاقاته مع بكين وموسكو، واستخدم سلاح سعر النفط بما يتلاءم مع مصالح بلاده وردّة فعله.
إعادة سورية
لم يعتبر الأمير محمّد يومًا أنّ الحربَ السوريّة حربُه، فهو ورثها وسعى للابتعاد عنها. قال لِمن زاره، إنّه لا يُريد شيئًا من بشّار الأسد سوى خروج إيران وحزب الله. جاء قرارُ المصالحة مع دمشق، في خضمّ الاتفاق مع إيران، ولكنّه جاء أيضًا في إطار التجاوب مع سياقات الاتفاقات السعوديّة مع روسيا والصين. لعبت موسكو دورًا كبيرًا بقي بعيدًا عن الأضواء في اقناع دولٍ عربيّة بطي الصفحة السوريّة. هذا يخفّف ايضًا عن القيادة الروسيّة أعباءَ عسكريةً ومادية كبيرة. ويعزّز جبهة فلاديمير بوتين في صراعه المرير في أوكرانيا ضد الغرب الأطلسيّ.
لو انصاع الأمير لمشيئة واشنطن والأطلسي، لما انفتح على سوريا. فالأنياب الأميركية والمخالب، سُرعان ما ظهرت بعد أيام قليلة على قرار اجتماع القاهرة إعادةَ سورية الى الجامعة. قدّمت مجموعة مشرعين أمريكيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي الخميس الماضي مشروع قانون، لمنع الحكومة الأمريكية من الاعتراف ببشّار الأسد رئيسًا لسوريا، ولاستخدام سيف العقوبات ضدَّ الدول التي تُطبّع مع القيادة السوريّة ، و يوسّع قانون قيصر الأمريكي الذي يفرض مجموعة عقوبات صارمة على سوريا منذ 2020.
كانت الرسالة الأميركية واضحة. وذهب مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان إلى الرياض في 6 آيار/ مايو الحاليّ، حاملاً جَزَراتٍ كثيرة علانية، وعصًا لم يجرؤ على استخدامها.
مشروع I2U2
صحيحٌ أنّ التطبيعَ العربيّ مع دمشق يُزعج واشنطن ويُريح موسكو، لكنّ الإدارة الديمقراطيّة في واشنطن، ما زالت تطمح في “مكرُمةٍ” سعُوديّة تساهم في تعزيز حظوظ بايدن في الانتخابات المُقبلة. تُريد واشنطن اقناع السعوديّة بالتطبيع العلني مع إسرائيل، وتسعى حثيثًا لتطوير فكرة ما يُسمّى ب “مشروع مجموعة I2U2 التي تضم الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة”. يهدف هذا المشروع إلى تعزيز فرص التعاون بين مجتمعات الأعمال في الدول الأربع وتعزيز الأمن البحري والبنى التحتية والمعابر والطرق التجاريّة، وهو انطلق رسميًّا في خلال قمة قادة المجموعة الذي عقد في تموز/يوليو 2022.
شرح جاك سوليفان طويلاً أهداف هذا المشروع الذي يُكمل اتفاقيات إبراهيم. قال أمام معهد واشنطن إنَّ العالم سيسمع الكثير عنه في المرحلة المُقبلة، موضحًا كيف أنه سيربط جنوب آسيا بالشرق الأوسط ثم بالولايات المتحدة، عبر طرق تخدم الاقتصاد والدبلوماسية الأمريكيّين.
يُدركُ الأمير محمّد مغازي المشروع هذا في محاولة أميركا تطويق مبادرة” الحزام والطريق” الصينّية. يعرف أنَّ كلّ التطبيع الخليجيّ أو العربيّ مع إسرائيل شيء، وأنّ إقدام المملكة العربيّة الاسلاميّة على التطبيع شيءٌ آخر، له أبعاد هائلة على المستويّين العربيّ والإسلاميّ. لكنّه قالها وسيُكرّرها في قمّة جدّة بعد أيام، إنّ التطبيع سيرتبط بحلّ الدولتين، وإنّ المبادرة العربيّة للسلام التي طُرحت في بيروت في العام 2002 استنادًا إلى فكرة الملك الراحل عبدالله، ما زالت هي الأساس. لا بأس أن يُصار الى خطوات حسن نوايا كمثل فتح الأجواء السعوديّة لبعض الطائرات الاسرائيليّة أو استقبال بعض الاسرائيلييّن في مناسبات، لكن قرار التطبيع ثمنه أكبر من مجرّد هديّة للمتردّد والمترنّح بايدن او الديمقراطيّين، وهكذا قرار لا يأتي في ظلّ حكوماتٍ هي الأكثر تطرّفًا في تاريخ إسرائيل.
يُدركُ الأمير محمّد مغازي المشروع هذا في محاولة أميركا تطويق مبادرة” الحزام والطريق” الصينّية. يعرف أنَّ كلّ التطبيع الخليجيّ أو العربيّ مع إسرائيل شيء، وأنّ إقدام المملكة العربيّة الاسلاميّة على التطبيع شيءٌ آخر
لبنان المجهري
أمام هذه التحوّلات الكُبرى، لا شكّ في أنّ الأمير الشاب يبتسم حين يُذكر لبنان. فأيّ دورٍ لوطن الأرز يلعبه في الصفقات الكُبرى، وفي مشاريع معابر الثروة والنفط وعالم التكنولوجيا الهائل؟ هل يهتمّ وليّ العهد فعلاً لمن سيكون رئيسًا للُبنان؟
على الأرجح لا، فهو يُدرك كما أدرك كلّ قادة السُعوديّة من قبله، أنّ لبنان عبارة عن مجموعة من السياسيّين الفاسدين، كأولئك الذين سجنهم وجرّدهم من أموالهم حين تولّى السلطة يدعمه الشباب السعودي الذي تُقارب نسبتُه في عدد السكان نحو 70 بالمئة. ويعلمُ أنّ اللبنانيّين لن يتفقوا على شيء، وانّ أيّ رئيسٍ سيأتي لن يستطيع القيام بأيّ فعلٍ بلا مالٍ خليجيّ ودورٍ عربيّ.
ازدادت هذه القناعة أمامَ وجود معارضةٍ مفكّكة، وتياراتٍ وأحزاب مسيحيّة متنافرة، وضياعٍ ما بعده ضياع في الاتفاق على اسم آخر قويّ ينافس فرنجيّة في الانتخابات.
مَن يدري، لعلّ الأمير سيُفكّر كما فكرّ الكثير من القادة العرب سابقًا، بأن سورية هي الحلّ بعيد الأمد في لُبنان، وانّ معادلة سين-سين هي الأمثل لتخفيف ما تراه الرياض “وطأة حزب الله”، ومنع تجارة الكبتاغون. ثم إنّ ورشة أعادة الاعمار في سورية قد تدخلُ لاحقًا في مشاريع الأمير وخطته “رؤية السعودية 2030”.
الدور الروسي
يقال إن رئيس الوزارء العراقي السابق مصطفى الكاظمي يتوسّط بين حزب الله والسعوديّة. ويُحكى عن تعزيز دور الرياض في العراق، وثمة معلومات دقيقة عن تواصلٍ في الأيام الماضية بين مسؤولين سعوديين وروس حول لبنان، وبين السفيرين السعودي والروسي في بيروت.
تحاول موسكو اقناع الرياض بسليمان فرنجيّة. يجيب السعوديون بأنّ ليس لديهم أي فيتو على أحد ولا يدعمون أحدًا، وأنَّهم ليسوا ضدّ فرنجيّة، وأنّهم سمعوا ما قاله مؤخّرًا وأن صداه وصل إلى الأمير نفسه بأنّه لن يترشّح ضد إرادة الرياض، وتقبّلوا برحابة صدر الضمانات التي قدّمها، لكنّهم سألوا الروس:” ماذا يضمن ألاّ يُغيّر رأيَه لاحقًا بضغط من الحزب؟” كان جواب الروس أنّهم هم الضامنون. لعلّ في هذا السياق جاءت زيارة رئيس تيّار المردة لعند السفير وليد البخاري.
يحاول الروس أيضًا طمأنة الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط. فالرجل وفق معلوماتهم قلقٌ جدًّا من إعادة تعويم الأسد ومن التقارب العربي السوريّ.
خلاصةُ القول إنّ الدور السعوديّ حاليًّا أبعد من عين التينة وبنشعي والرابية ومعراب والمختارة والضاحية، هو يساهمُ في رسم معادلاتٍ اقليميّة ودوليّة، قد تقلبُ وجهَ المنطقة لو نجحت، ولا شكّ في أنّ الخطر على الأمير نفسه يتضاعف، فالرجلُ تخطّى كل الخطوط الحُمر التي لم يجرؤ أيُّ ملك أو أمير قبله على تخطيّها منذ قرار قطع النفط العربي في حرب 1973.
هي مغامرةٌ كُبرى تستحقّ المتابعة، بدلاً من التلهيّ بقشور سياسةٍ لُبنانية لا تُقدّم ولا تؤخر في حسابات الإقليم والعالم.