بشكل متزامن، كانت بيروت مطلع الأسبوع، مسرحاً لوجود مخابراتي ثلاثي: فرنسي أميركي وإسرائيلي. والتفاصيل، كما حيال كلّ ما هو مخابراتي، مثيرة وغامضة.
*******************
ظهر الأحد الماضي وصل السفير الفرنسي السابق برنار إيمييه إلى بيروت. الرجل الذي يعرف عاصمتنا وبلادنا وسياسيّيهما منذ نحو عقدين، خصوصاً في ظلّ حقبة 8 و14 آذار، زارنا هذه المرّة بصفته مديراً للمخابرات الفرنسية الخارجية. زيارة خاطفة لم تكمل ساعاتها الأربعاً والعشرين. بعد محطّتين له في الدوحة وتل أبيب. في عاصمة الكيان قيل أنّه أطلع على خطط وخرائط ونقاشات حول لبنان. وسمع كلاماً مقلقاً عن الجنوب واحتمالات تطور أوضاعه، أو تدهورها. فقرّر عندها زيارة بيروت. في العاصمة اللبنانية التقى “السفير المدير” الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي إضافة إلى وليد جنبلاط. كما شملت جولته سلسلة لقاءات مع أمنيين ومستقبلين على أرض المطار. وتجنبت مؤسسة الجيش اللبناني كلياً. ونظراً لوجود مدير المخابرات خارج لبنان، وحرصاً على قائد الجيش من بازار الحملات والتراشق.
بشكل متزامن، كانت بيروت مطلع الأسبوع، مسرحاً لوجود مخابراتي ثلاثي: فرنسي أميركي وإسرائيلي. والتفاصيل، كما حيال كلّ ما هو مخابراتي، مثيرة وغامضة
خلاصات زيارة إيمييه
بمعزل عمّا قاله الرجل حرفيّاً، وما عبّر عنه بلغته الدبلو – أمنيّة، يمكن القول إنّ الزيارة خلصت إلى بلورة المضمون التالي:
– أوّلاً، ثمّة حالة جنون في الكيان المحاذي لكم جنوباً. العسكر والأمن هناك هما الأكثر واقعية وتعقّلاً. فيما جنون السياسيين مطلق ومقلق. يبدون مستعدّين لأيّ شيء. لا لزوم لشرح الأسباب والخلفيّات والدوافع. لكنّ هذا المعطى واضح وبديهي. وعليكم أخذه في الحسبان.
– ثانياً، ثمّة معطيات ميدانية على الأرض. من غزة حتى الحدود اللبنانية، هناك سياسة تدمير وتهجير شاملة. وهي عند الحدود اللبنانية باتت متوازنة متكافئة ومتقابلة من الطرفين. نزوح سكّان المستوطنات، مقابل نزوح بعض سكان الجنوب اللبناني. مع استهدافات عسكرية ومدنية متبادلة. لكنّ في هذا المشهد شيئاً ما تغيّر. إنّه الفراغ الأمني والعسكري على الحدود. ثمّة مواقع عسكرية إسرائيلية بكاملها لم تعد قائمة. وهناك منظومة كاملة للرصد والمراقبة والمتابعة، لم تعد موجودة. هذا الأمر يشكّل عامل ضغط على الجيش هناك. وهو يساعد جنون السياسيين في اعتبارهم أنّ الوضع المستجدّ على الحدود اللبنانية، لا يمكن أن يستمرّ. ويستحيل أن يصبح ثابتاً ودائماً. وهذا معطى آخر عليكم أيضاً التحسّب له.
– ثالثاً، هناك حرب فعليّة في غزة. حرب يتدخّل فيها العالم كلّه تقريباً. بشكل مباشر أو غير مباشر. من واشنطن وموسكو إلى الرياض وطهران، مروراً بأوروبا والعالم العربي. وبالتالي فهي حرب لا بدّ لها أن تنتج وضعاً جديداً. على قاعدة أنّ لكل حرب نهاية. ونهاية حرب غزة ستحمل حتماً ترتيباً ما للوضع الحدودي اللبناني. سواء كان هذا الترتيب تطبيق القرار 1701 أو تعديله أو تغييره أو إلغاءه. لكنّكم على موعد مع هذا الاستحقاق، تزامناً مع استحقاق نهاية حرب غزة. وهذا معطى أكيد يجب عليكم الاستعداد له.
هل نقل تهديداً إسرائيليّاً؟
هذا كلام أقرب إلى التحليل السياسي العام. وهو ما تجيده وتمتهنه المخابرات الدولية. مع خلاصة ضمنية غير محكيّة: إذا كان لديكم كلام مع الحزب، أنقلوا له هذه المعطيات.
الحرب في جنوب لبنان، إذا حصل حادث كبير أدّى إلى تحوّلها واقعاً، ستكون أكثر جنوناً من غزة. ففي القطاع ربّما ثمّة اعتبارات مصرية وقطرية وسعودية. وربّما هناك اعتبارات التجاور الجغرافي وترابط البنيات التحتية وتساؤل مجانين الكيان عمّن سيعيد إعمارها بعد التدمير.
الخرق الداخلي يشير إلى هشاشة ذاتية وعطب مناعة. فيما العمالة المحتملة لبعض النازحين تستبطن مزيداً من حساسيّات التحريض والخوف المتبادل بين اللبنانيين والسوريين. وهو ما قد يعقّد الوضع على الأرض أكثر. وقد يزيد من احتمالات الخرق والتجنيد.
أمّا في لبنان فلا وجود لهذه الاعتبارات في أذهانهم إطلاقاً. وبالتالي فالتدمير سيكون جنوناً مطلقاً.
لم يفتح الرجل ملفّات الرئاسة والجيش من تلقاء نفسه. كان كلامه البادر منه مقتصراً على الجنوب.
لكنّه حين سئل عن الملفّين الآخرين، أجاب باقتضاب وبلا نيّة استفاضة أو عناية شخصية بهما.
ربّما لأنّه يدرك أنّ المسألتين من اختصاص موفد خاص لرئيسه. وأنّ هذا الموفد بالذات كان هنا قبل أيام قليلة فقط.
انتهت زيارة إيمييه تاركة تساؤلات لدى من التقاهم: هل هي رسالة إسرائيلية تهديدية مباشرة؟
هل هو بحث فرنسي عن دور؟ أم مجرّد حرص زائد من صديق؟
المعنيون استبعدوا فرضية الرسالة الإسرائيلية. لسبب بسيط. ففي قناعتهم أنّ رسائل بمثل هذه الجدّية، تنقلها واشنطن لا باريس.
زائر أميركيّ أمنيّ… وخرق إسرائيليّ
للمصادفة، وفيما إيمييه في بيروت، كان ثمّة “زائر” أميركي مماثل يجول في العاصمة اللبنانية. لم يحمل جديداً. ولم ينقل تهديداً. اكتفى بالبروتوكولات الروتينية من تبادل أفكار وعرض آراء ومحاولة استيضاح معطيات. أعرب عن قلق جنوبي طبعاً. لكن ضمن حدود عمله الطبيعي. وبكلّ الأحوال لم يظهر، بأيّ شكل من الأشكال، أنّ هناك رسالة إسرائيلية ينقلها للبنان.
لكنّ التقويم اللبناني العامّ للجولتين أعاد فتح ملفّ “زوّار” ثالثين دائمين. إنّه ملفّ الخوف من الاختراق الأمني الإسرائيلي الكبير للساحة اللبنانية. فبين إشارات الأجانب ومعلومات الأجهزة اللبنانية والوقائع الميدانية، ثمّة انطباع بأنّ إسرائيل تمكّنت في الفترة الأخيرة من تحقيق “اجتياح أمني” كامل للبنان. بشبكات معلومات قد تكون باتت أقرب إلى “شركات” متكاملة. وهو ما ظهر خلال اشتباكات الجنوب تحديداً. من ظاهرة استهداف العدوّ لعناصر الحزب فور انتهائهم من تنفيذ عملياتهم. وأحياناً بعد عودتهم إلى ملاذاتهم الآمنة. وصولاً إلى الخرق باستهداف المجموعة القيادية، وبينها ابن النائب محمد رعد.
المعضلة في هذا المجال تكمن في رفض البعض الاعتراف بهذه الحالة. من باب المكابرة أو الإنكار. خصوصاً حين تتركّز الشبهات على مستويَين اثنين:
– الخرق الداخلي.
– أو تجنيد العملاء في بيئة النازحين.
لما لهذين العنوانين من حساسية خاصة. فالخرق الداخلي يشير إلى هشاشة ذاتية وعطب مناعة. فيما العمالة المحتملة لبعض النازحين تستبطن مزيداً من حساسيّات التحريض والخوف المتبادل بين اللبنانيين والسوريين. وهو ما قد يعقّد الوضع على الأرض أكثر. وقد يزيد من احتمالات الخرق والتجنيد.
باختصار، هكذا استضافت بيروت مطلع الأسبوع هذا اللقاء الافتراضي بين أجهزة ثلاثة في وقت واحد.
أين الجديد في الخبر؟ ألم تكن بيروت كذلك منذ 60 عاماً؟!
الجديد أنّها كانت يومها بيروت. وأنّها كانت واثقة أنّها ستكون كذلك، ولو بعد ستّين عاماً.