يتخوّف وزير الخارجية الأردني السابق، الدكتور مروان المعشّر، من اشتعال الضفة الغربية بعد أن تخمد جبهة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وذلك في سياق توقّعه 3 بدائل تلوح في الأفق، لعملية سياسية جدّية تهدف إلى قيام دولة فلسطينية، وسط حديث البعض عن العودة عبر الهدنة إلى ما قبل 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023) بما تعنيه من جمود في الحلول للقضية الفلسطينية.
المعشّر، وهو نائب رئيس معهد “كارنيغي” للسلام، ومتخصّص بالدراسات حول الشرق الأوسط، يتمتّع بخبرة واسعة في التفاوض العربي – الفلسطيني مع إسرائيل، وقدّم إحاطة بتحليله للواقع الحالي وبتوقّعاته لمستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، في لقاء مع عدد من الصحافيين والباحثين خلال زيارة قام بها لبيروت قبل أيّام، عدّد خلالها البدائل الثلاثة على الشكل الآتي:
الانتظار الأميركيّ “للظروف المؤاتية”… والتهجير
1- البديل الأميركي: الذي يقوم على اعتبار الظروف غير مؤاتية للعملية السياسية. فالجانب الأميركي تصرّف خلال السنوات الماضية بالاستناد إلى نظرية الانتظار حتى تصبح الظروف ملائمة لإطلاق التفاوض على حلّ الدولتين. أكثر ما ينجم عن هذا الانتظار المتوقّع هو التهدئة الأمنيّة لبعض الوقت، ومواصلة تنفيذ اتفاقات التطبيع العربي الإسرائيلي. لكنّ ترقّب ظروف جديدة بعيدٌ من الواقع إذا كان الحلّ يشمل وقف الاستيطان (فيما هناك المطالبة بالعودة عنه وتفكيك المستوطنات). وإذا كانت المعضلة الراهنة تكمن في وجود زهاء 700 ألف مستوطن في الضفة الغربية، فإنّ انتظار الظروف الجديدة لإطلاق عملية سياسية، أي خمس أو عشر سنوات، سيقود حتماً إلى ارتفاع أعداد المستوطنين إلى مليون أو ربّما أكثر. فكيف يصبح حينها ممكناً بحث حلّ الدولتين؟ على سبيل المثال والملاحظة، فإنّ وزير المالية المتطرّف بتسلئيل سموتريتش تقدّم أول من أمس بمشروع لتمويل بناء مستوطنة بـ7,000 مسكن.
المفارقة تكمن في أنّ الجانب الأميركي لم يلتزم مرّة بحلّ الدولتين، وأنّ الموقف الأميركي كان معه للمرّة الأولى على لسان الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش عام 2002، الذي اشترط تنحية ياسر عرفات، بحسب المعشّر.
يتخوّف وزير الخارجية الأردني السابق، الدكتور مروان المعشّر، من اشتعال الضفة الغربية بعد أن تخمد جبهة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وذلك في سياق توقّعه 3 بدائل تلوح في الأفق، لعملية سياسية جدّية تهدف إلى قيام دولة فلسطينية
2- البديل الثاني: استمرار سياسة التهجير، حيث كان يقال إنّ هذا زمن انتهى، إلا أنّ ما تقوم به إسرائيل عملياً يعني أنّ هذا هو الحلّ بالنسبة إليها. يستند المعشّر إلى إحصاءات تشير إلى أنّ عدد الفلسطينيين في فلسطين 7.4 ملايين، 5.4 ملايين منهم تحت الاحتلال، بينما عدد اليهود 7.2 ملايين. والأغلبية الفلسطينية ستتزايد. وكان يُنظر إلى التهجير على أنّه خيار الأوساط المتطرّفة في المجتمع الإسرائيلي، لكن بات هؤلاء هم الفاعلين في الحكومة. وما قامت به الأخيرة في غزة هو جعل العيش فيها مستحيلاً بتدمير كلّ شيء، وخصوصاً البنية التحتية. وبات الفلسطيني هناك يدرك صعوبة العودة إلى الوضع السابق.
استمرار العنف… لسنوات؟
3- السيناريو الثالث: الذي يبدو أكثر واقعية والذي لا يستبعده الدكتور المعشّر هو استمرار العنف (استئنافه المفترض بعد الهدنة) ليس في غزة وحدها بل في الضفة الغربية، على الرغم من صعوبة ذلك. ففي الأخيرة بدأت المقاومة المسلّحة قبل القطاع في الأشهر الماضية. والخشية هي من أن تطول هذه الحالة العنفية لسنوات، وربّما أكثر من عشر سنوات، إلى أن يصل الصراع إلى نتيجتين: استحالة إقامة الدولة الفلسطينية، واستحالة بقاء نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. وفي الانتظار يصبح العنف من دون هدف سياسي واضح لأنّ منشأ اللجوء إليه هو فقدان الأمل. وقد يتعذّر وقف ذلك لأنّ ما جرى في الضفة الغربية يشير إلى أنّ مجموعات صغيرة نشأت أخذت تتسلّح وتقاوم الجيش الإسرائيلي، بحيث يصعب وجود مرجعية واحدة تتحدّث باسم شباب المقاومة.
أكثريّة فلسطينيّة مع “حماس” والكفاح المسلّح
المستقبل القاتم في المدى القريب يمكن أن يقابله على المدى الأبعد تحوُّل في طبيعة الصراع من تركيز على طبيعة الدولة الفلسطينية وشكلها إلى تركيز على الحقوق الفلسطينية بالعيش.
في كلّ الأحوال يعيد انشغال الدول المعنيّة بتثبيت الهدنة ووقف النار تسليط الأنظار على إحداث تغييرات في الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، بذريعة تهيئة الظروف لإطلاق عملية سياسية تفاوضية على الرغم من أنّها تبدو شبه مستحيلة وفق المعطيات المذكورة أعلاه. وفي هذا الصدد يستدلّ المعشّر بإحصاءات واستطلاعات رأي كالآتي:
– وفق استطلاع جرى بين الفلسطينيين على عيّنة موزّعة بين الضفة الغربية وغزة والشتات، طلب 82 في المئة مغادرة الرئيس محمود عباس الرئاسة، وأيّد 60 في المئة حكم “حماس” لغزّة، واعتبر 64 في المئة أنّ إنهاء الاحتلال يأتي بالكفاح المسلّح، وليس بالتفاوض على حلّ الدولتين (وهذه أكبر نسبة تؤيّد المقاومة المسلّحة منذ سنوات). وهذه النتائج تجعل الانتخابات الفلسطينية مستبعدة. لذلك يجري الحديث عن قيام حكومة انتقالية من غير الفصائل الفلسطينية، تضمّ بعض الشخصيّات التي يجري التداول بأسمائها، توافق الحركة عليها من دون أن تكون داخلها.
المستقبل القاتم في المدى القريب يمكن أن يقابله على المدى الأبعد تحوُّل في طبيعة الصراع من تركيز على طبيعة الدولة الفلسطينية وشكلها إلى تركيز على الحقوق الفلسطينية بالعيش
– الحكومة الإسرائيلية خاضعة للتغييرات ليس استناداً إلى الخلافات بين الأحزاب الدينية المتشدّدة على الحلول للقضية الفلسطينية، بل بسبب الانقسام حيال تأييد رئاسة بنيامين نتانياهو لها أو معارضتها.
استحالة العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر
تكمن المعضلة حول إمكان إنهاء الحرب على غزة، في تناقض مواقف الدول الغربية الساعية إلى إنجاح الهدنة استناداً إلى مبدأ العودة بالوضع إلى ما قبل 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023)، أي إلى تهدئة أمنيّة انطلاقاً من غزة تنسحب على سائر الجبهات، في وقت يقرّ قادة هذه الدول بأنّ إعادة الوضع إلى ما قبل ذلك التاريخ، لا يعني سياسياً سوى العودة إلى وصفات فاشلة لحلول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
الواضح أنّ الحرب على غزة أنتجت وضعاً معقّداً أقرب إلى الاستعصاء، إلى درجة أنّ كبار المسؤولين في أوروبا وأميركا يقولون الشيء ونقيضه، أو يتقصّدون الغموض.
في حديثه إلى جريدة “النهار” أمس، قال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون: “السنوات التي تلت أوسلو لم تكن سنوات نجاح… لا نريد العودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل 7 أكتوبر، وعلينا محاولة إيجاد طريق جديد للمضيّ قدماً لنحصل على سلام واستقرار حقيقيَّين”.
بين العودة لما قبل 7 أكتوبر واللاعودة
في المقابل تقوم الهدنة على فلسفة العودة غير الواقعية إلى ما قبل هذا التاريخ، بحيث يستحيل التأسيس عليها من أجل بلورة الحلول السياسية، وسط غلبة الاعتقاد بأنّ إطلاق الدول القادرة على الضغط على إسرائيل لمسار سياسي ينقل وقف إطلاق النار إلى عملية تفاوضية على حلّ الدولتين، لا يعدو كونه شعارات تخديريّة ودعائية في زمن الانتخابات الأميركية، وفي ظلّ بقاء حكّام الدولة العبرية على خيارهم بالحلّ العسكري.
إسرائيل لم تكتفِ ولن تكتفي بما حقّقته حتى الآن في غزة من أمر واقع يحول دون قيام دولة فلسطينية. وإذا كانت المراهنة على حصول تغييرات في المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل من أجل تفعيل محادثات السلام مع الفلسطينيين، فإنّ الإحصاءات عن مزاج الجمهور الإسرائيلي تشير إلى أنّ الأكثرية مع استمرار الحرب ضدّ غزة (قرابة الثلثين). وهذا يعني عمليّاً أن لا عودة إلى ما قبل تاريخ “طوفان الأقصى”. فالوضع الذي كان قائماً في حينها هو الذي أفضى إلى 7 أكتوبر. وهكذا تدور الدوائر.