في العدد الأخير (رقم 102) من مجلّة “الشؤون الخارجية” الأميركية، ورد سؤالان كبيران: لماذا الرغبة الأميركية الهائلة في الهيمنة واستمرارها؟ ولماذا لا تستفيد الولايات المتحدة من دروس الحروب التي خاضتها في العقدين الأخيرين؟
رغبات الهيمنة هي التي تحول دون مراجعة وجوه الفشل في الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة وتخوضها. فما دامت الرغبة في السيطرة هي السائدة، من الطبيعي أن يجري تجاوُزُ ما يمكن أن يُعتبر فشلاً، لأنّ الهيمنة وطموحاتها تعني إمكان بل ضرورة خوض حروبٍ جديدةٍ كلّما برز تحدٍّ للسطوة الأميركية لا ينحلُّ لصالحها بالدبلوماسية الصبورة.
ما حصل في العراق حصل في أفغانستان. فقد غزت أميركا بلاد الأفغان لضرب “القاعدة” و”طالبان”، وبعد عشرين عاماً عادت “طالبان” إلى السلطة، وانسحب الأميركيون بطرائق مذلّة وقد انتصر خصومهم في ساحة المعركة
تحلُّ في هذه الأيام الذكرى العشرون للغزو الأميركي للعراق عام 2003. وبين عامَيْ 2003 و2007 كان هناك في العراق مئة وسبعون ألف جندي أميركي. وبسبب الفشل في تحقيق أهداف الغزو (إعادة بناء الدولة والديمقراطية، ومعاقبة التنظيمات التي غزت أميركا عام 2001، وإخافة إيران وحلفائها) بدأ الأميركيون منذ عام 2008 التفكير في الانسحاب، بحيث صار ذلك الهدف الرئيسي في حملة أوباما المرشّح الديمقراطي لخلافة بوش الابن في الرئاسة. وانتهى الانسحاب عام 2011، ثمّ اضطرّت أميركا إلى العودة إلى العراق عام 2015 لمكافحة “الإرهاب” الذي جاء جنودها إلى أفغانستان (2002) والعراق (2003) من أجل القضاء عليه! وفي الحالتين ظلّ الإيرانيون هم المستفيدين من التحرّك العسكري الأميركي.
ما حصل في العراق حصل في أفغانستان. فقد غزت أميركا بلاد الأفغان لضرب “القاعدة” و”طالبان”، وبعد عشرين عاماً عادت “طالبان” إلى السلطة، وانسحب الأميركيون بطرائق مذلّة وقد انتصر خصومهم في ساحة المعركة.
ماذا استنتجت القيادة الأميركية؟
جاء في استراتيجية الولايات المتحدة لعام 2022: “العالم اليوم بحاجةٍ شديدةٍ إلى القيادة الأميركية، ولا تستطيع أميركا أن تخيّب آمال العالم”.
في المقال الأوّل بمجلّة “الشؤون الخارجية” الذي كتبه الاستراتيجي أندرو باسيفيتش وعنوانه: “لماذا تظلّ الولايات المتحدة أسيرة الأحلام الزائفة في الهيمنة؟”، يعلّل الكاتب ذلك بثلاثة أمور:
1- الاعتياد على الانتصار بالقوّة العسكرية منذ الحرب العالمية الأُولى.
2- حفظ المصالح العالمية لأميركا بضرب الضعفاء لإخافة الكبار الأقوياء.
3- والحلم بأن يقتنع الروس والصينيون وسائر المنافسين أنّ التفوّق الأميركي لا يمكن مواجهته، لأنّ الولايات المتحدة تمتلك أقوى عسكر وأقوى اقتصاد وأقوى عُملة.
منذ عام 2004 تاريخ صدور كتاب فريد زكريا: “عالم ما بعد أميركا”، صدرت عشرات الدراسات بالمعنى والمضمون نفسيهما. بيد أنّ كلام الاستراتيجيين هؤلاء (ومعظمهم أميركيون) ما أثّر في “الدولة العميقة” الأميركية، كما لم يؤثّر كلام جوزف ناي: “القوة الناعمة” (1994). ويعني بذلك قوّة التقدّم العلمي، وقوّة الاقتصاد، وقوّة الهيمنة على المؤسّسات الدولية، والتفوّق الأخلاقي.. إلخ. فلا معنى لدى الموجودين في السلطة من الحزبين إلّا بالقوّة العسكرية، وهي القوّة الجبّارة التي تتضخّم عاماً بعد عام إلى آفاقٍ أسطوريةٍ يصبح النووي معها لعبة مثل سائر اللُّعَب التي تمارسها حتى كوريا الشمالية.
ما تزال للولايات المتحدة اليد العليا على الجبهتين: الأوروبية، وبحر الصين الجنوبي. ويبدو أنّها، بعكس الشرق الأوسط، مستعدّة للقتال على الجبهة الأوروبية وعلى جبهة بحر الصين
هؤلاء الذين يتأمّلون حروبهم بأفغانستان والعراق ومن قبل بفيتنام، كيف ينظرون إلى الأمر؟ هم يعترفون بأخطاء في التخطيط وفي الاستهداف وفي السياسات، لكنّ هذا الاعتراف لا يكون من أجل الإعراض عن استراتيجيات الحرب، بل للزعم أنّه في الغزوات اللاحقة سيحاولون تجنّب الأخطاء السابقة بحيث يصبح الانتصار كاملاً.
ما هو الحكم الآن على سياسات المواجهة الأميركية تجاه روسيا في حرب أوكرانيا؟
المواجهة هذه فريدة. فللمرّة الأولى منذ الحرب الكورية (1950-1953) تصطدم الولايات المتحدة بروسيا بشكلٍ شبه مباشر. وللمرّة الأولى منذ الحرب الثانية تُخاض حرب في أوروبا. هل كان بوسع الأميركيين أن لا يتدخّلوا؟
هناك ثلاثة آراء أو توجّهات:
1- نعم، كان بوسعهم أن لا يتدخّلوا، لكنّ طموحات الهيمنة والتحدّي دفعتهم إلى ذلك.
2- وهناك الرأي القائل إنّ الأفضل كان دعم الأوروبيين بحيث يخوضون حرباً بالواسطة، ويستطيعون هم أن يظلّوا وسطاء.
3- والإمكانية الثالثة أنّه كان لا بدّ من حربٍ تجريبيةٍ في قلب أوروبا لإرغام الروس والصينيين على إعادة حساباتهم، فلا يظنّون أنّ الولايات المتحدة تخشى الصدام المباشر. وهم مقبلون على صراعٍ مع الصين من أجل تايوان وبحر الصين الجنوبي، فلتكن التجربة في الميدان الذي يعرفونه.
تحدّي الصين.. يغيّر الصورة
هناك وجوهٌ أُخرى لفرادة ما يجري. فهذا صراعٌ على المديات الاستراتيجية، ومع الصين بعد روسيا. والنهوض الصيني كبير، لكنّه شديد التعلّق بالولايات المتحدة، وفي الجوانب الثلاثة: العسكري/التكنولوجي، والاقتصادي، والاستراتيجي. وهو صراعٌ ما جرّبته الولايات المتحدة من قبل بهذا الشمول: فهل تستغني الصين عن روسيا وتفضّل الصحبة الأميركية، أم تقرّر أنّه لا بدّ من ضرب القوة العالمية الأميركية ولتكن روسيا في الواجهة؟
عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الصين، وبدأ ينقد سياسات الولايات المتحدة في الهيمنة. ومعروفٌ عن الفرنسيين التردّد منذ البداية، وكذلك الألمان، وهما القوّتان الأوروبيتان الكبريان. والأوروبيون هم الأكثر تضرّراً من تداعيات الحرب والحرمان من الطاقة الروسية ومن الاستثمار في الثروات الطبيعية الروسية.
ثمّ إنّهم جميعاً ما عادوا يريدون الحروب التي دمّرت أوروبا مرّتين في القرن العشرين. إنّما الواقع أنّ العقل الأوروبي منقسم، فدول شرق أوروبا واسكندينافيا تخشى على أمنها وأراضيها وسيادتها من روسيا في الماضي والحاضر، ولذلك لجأت فنلندا إلى الحلف الأطلسي، وستتبعها السويد، وأمّا دول البلطيق وبولندا الملتاعة فهي في الحلف الأطلسي أيضاً.
للأمر وجهان إذاً: الدول الأوروبية الكبرى التي لا تحتمل حرباً مع روسيا، والدول الأوروبية الصغرى التي تخشى من روسيا على نفسها ولذلك تسارع إلى حضن الولايات المتحدة.
استراتيجيّو مجلّة “الشؤون الخارجية” الأميركية مجمعون على هُيام بلادهم بالحرب، ومستنكرون لذلك. لكنّهم من جهةٍ ثانية يعتبرون الهجوم الروسيَّ على أوكرانيا فشلاً ذريعاً. فقد أرادوا إسقاط أوكرانيا وجعلها دولةً تابعةً مثل روسيا البيضاء، لكنّهم فشلوا وانسحبوا إلى دونباس. ولذلك يرى هؤلاء إمكانيةً لصمود أوكرانيا، وإن لم يعرفوا ماذا يمكن أن تكون تداعيات الحرب على روسيا، سواء أخذت دونباس أو لم تأخذها.
ما تزال للولايات المتحدة اليد العليا على الجبهتين: الأوروبية، وبحر الصين الجنوبي. ويبدو أنّها، بعكس الشرق الأوسط، مستعدّة للقتال على الجبهة الأوروبية وعلى جبهة بحر الصين: فهل الدوافع إلى ذلك هي الهيمنة والرغبةُ فيها، أو هو الفهم الأميركي للاحتياجات الاستراتيجية البعيدة المدى للبلاد؟! وقد يُقال إنّ الأمرين سيّان ما دامت أميركا تقاتل في الواقع. وهذا غير صحيح لأنّه إذا لم تكن أميركا ترى لحربها ضرورة استراتيجية فقد تنسحب، وهو الأمر غير المتصوَّر حتى الآن.