الرئيسيةمقالات سياسيةالمسيحيّون ضحايا ذاكرة انتقائية وتجاهل لمخاطر العدوان

المسيحيّون ضحايا ذاكرة انتقائية وتجاهل لمخاطر العدوان

Published on

spot_img

لم يكن التعامل مع «القضية الفلسطينية» يستوجب الحذر وانتقاء المفردات بدقّة وغيرها من العبارات التي تختبئ خلفها المرجعيات السياسية والدينية المسيحية اليوم.

واظب حزب الكتائب على تنظيم لقاء تلو آخر مع منظمة التحرير الفلسطينية، وعقد ندوات مشتركة معها. ولم تكن «مجزرة الدامور» حاضرة في الوجدان المسيحي الشعبي كصخرة ثابتة. النائب السابق في «القوات اللبنانية» أنطوان زهرا قرّر في يوم ما أن رقبته والكوفية الفلسطينية صنوان لا يفترقان. ولم يكن التضامن الإنساني مع فلسطين يثير حساسية لدى الرأي العام المسيحي حين استقلّت شخصيات من 14 آذار (التي شبّ كميل دوري شمعون وشاب في أروقتها) أول طائرة إلى مصر، وزارت غزة تضامناً قبل 11عاماً. يومها لم تكن «طائرة 14 آذار» تمثل توريطاً للبنان في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، ولم يقلق أحد على شعبيته بسببها. «الذاكرة الجماعية المسيحية» تتوقّف عن العمل عشر سنوات ثم تستعيد عافيتها وتبدأ التغريد. وهذه الذاكرة العظيمة تتلطّى خلفها المرجعيات اليوم، فلا تميّز بين حركة «فتح» التي تجمع قياداتها علاقات اجتماعية وطيدة مع مرجعيات وعائلات وبيوتات مسيحية رغم دورها في الحرب اللبنانية، بخلاف حركة «حماس» التي تشكّلت عام 1987 ولم يكن لها يوماً تورّط عسكري في الداخل اللبناني.

ذاكرة جماعية، لكن انتقائية، تتوارث الأحقاد على «الفلسطيني»، تماماً كما تتوارث الإعجاب بالأميركي الذي جاءهم بسفن لنقلهم إلى أميركا وكندا، وتتوارث الحب الأحمق للإسرائيلي الذي هجّر «هذا الفلسطيني» إلى لبنان.
ثمّة مشكلة في الذاكرة طبعاً، وفي العقل أيضاً: العقل الذي لا يفهم أن مشكلته مع الفلسطيني أنه ترك أرضه، وأن الصراع اليوم هو مع الفلسطينيّ الذي تمسّك بأرضه رغم سبعة عقود من المجازر والسجن والإهانة والتعذيب.
في الصراع القائم بين من يريد أن يبقى في أرضه ومن يريد تهجيره، لا يمكن أحداً إلا يكون الإنسان متطرفاً في الوقوف إلى جانب من يتشبّث بأرضه، لا التلوّن والتذاكي والتبرير لمن يريد تهجيره. كيف يكون عقل ضد الفلسطيني في أرضه، وضده إذا هُجّر من أرضه؟ لا يمكن لذاكرة طبيعية أن تفهم، ولا لعقل طبيعيّ أن يفهم. وإذا كان الرئيس ميشال عون قد نجح عام 2006 في تصويب هذا الانحراف التاريخيّ عندما رفع لواء «أساس المشكلة»، واعتبر أن معالجة قضية السلاح تستوجب العودة إلى أساس المشكلة المتمثّلة بإسرائيل، الكيان الذي يحتل الأرض وينتهك السيادة براً وبحراً وجواً ويرفض عودة اللاجئين، فإن أياً من المرجعيات السياسية والدينية الحالية لم تلتقط اللحظة الآنية بكل أهميتها لتكمل ما بدأه العماد عون، على ثلاثة مستويات أقلّه:

– في ظل المواقف الواضحة للقيادتين المصرية والأردنية بأن كل ما قدّمه البلدان في سبيل «السلام» مع إسرائيل لم يحل دون إصرارها على تهجير مليونَي فلسطيني لتوطينهم في أراضيهما، كان لا بدّ أن يخرج صوت واضح حاسم، يقول للرأي العام إن السلام ومساراته لا يحميان لبنان الذي خرج من طموحات إسرائيل التوطينية بفضل مقاومته وليس أي شيء آخر، وأن هذه تستوجب تمسّكاً دائماً بها للحؤول دون أن يُطلب من لبنان يوماً ما أن يكون الوطن البديل كما يُطلب من مصر والأردن اليوم.

يفتقد المسيحيون القائد الذي يبادر إلى إنهاء الذاكرة الانتقائية بشكل حاسم كما فعل العماد ميشال عون عام 2006

– في ظل الصراع الواضح بين محور إقليمي وآخر عالمي يدعم إسرائيل في قتل المدنيين وتهجيرهم، وهو نفسه العالم الذي يريد من لبنان تثبيت السوريين وتوطينهم في أرضه، كان ينبغي أن يخرج صوت واضح يحدّد الهواجس بوضوح ويقول للرأي العام إن انتصار أميركا وأوروبا في معركتهما الحالية يعطي دفعاً معنوياً هائلاً لهما في معركتهما الموازية الواضحة المعالم في لبنان، وهو ما يفرض قطع الطريق عليهما.
– في ظل الحراك الدبلوماسي الغربي أخيراً تجاه لبنان والاستجداء الأميركي – الفرنسي – الألماني بأساليب متعدّدة لتحييد حزب الله عن الصراع، كان يُفترض بالمرجعيات السياسية والدينية عدم التقاطع المجاني مع الغرب في هذا المطلب، وتحديد ثمن وطني لهذا التقاطع، سواء في نقاشاتها المباشرة مع أولئك أو عبر الإعلام، مثل حل قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ووقف تمويل تثبيت اللاجئين السوريين في لبنان، وانسحاب إسرائيل الفوري من الأراضي اللبنانية وإنهاء استباحتها للأجواء اللبنانية. مع التأكيد دائماً أن هذه المواقف معنوية فقط، ولا تقدّم أو تؤخّر في قرارات المقاومة.

بعد أسبوعين على «طوفان الأقصى»، لا يمكن الركون إلى موقف واحد لمرجعية مسيحية سواء روحية أو سياسية، يقارب المرحلة بكل ما تستوجبه من قلق وحذر أولاً، ومسؤولية وحكمة ثانياً. لا أحد يتصرف على أساس أن ما يحصل في غزة اليوم سيقرر شكل لبنان ودوره ومستقبله في السنوات المقبلة، وأنه يمكن أن يكون لاعباً أساسياً فيه لا مديراً لماكينة انتخابية تحتسب الأصوات التي يمكن أن يربحها هنا أو يخسرها هناك. ففي مواجهة التركيز الدولي الشعبي والسياسي على المنطقة، وتسارع وتيرة الاجتماعات والقمم، تراوح المواقف السياسية المسيحية مكانها دون تقدير معلن لما تشهده المنطقة، رغم الخطورة الهائلة المحدقة.
في هذه اللحظة، يفتقد المسيحيون القائد الذي يأخذ المبادرة لإنهاء انتقائية الذاكرة بشكل حاسم وواضح، كما فعل العماد ميشال عون عام 2006، ويتجاوز جمود العقول وبؤس المشاعر التي تبلغ في وقاحتها حد القول إذا قررت التعاطف أن قلبها يوجعها «حتى ولو كانوا فلسطينيين».

وعلى أهمية الاعتراض على أعمال الشغب التي رافقت الاحتجاجات الشعبية غير المنظّمة أمام السفارات وبعض الوكالات الحصرية العالمية، لا يمكن في لحظة التحوّلات الإقليمية والدولية الحاصلة أن يكون همّ المسيحيين مبنى وكرسي مقهى ولوح زجاج.

أحدث المقالات

جنوب الحرب وشمال النازحين والدرّاجات.. تلغي”الدولة الوطنيّة”؟

كان المشهد في لبنان يوم الجمعة الماضي معبّراً جدّاً عن صورة البلد وإشكاليّاته، أو...

كيف سينعكس غياب رئيسي وعبد اللهيان على لبنان؟

بدأت التساؤلات تتوالى بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين عبد الأمير...

سباق التفاوض الإقليمي: “الثنائي الشيعي” للفوز بلبنان والرئاسة؟

أحداث من التاريخ يمكنها أن تتشابه أو أن تتكرر، وإن بسياقات وظروف مختلفة. أواخر...

الزيارة الأولى منذ اتفاق الدوحة… ما وصيّة جنبلاط من قطر؟

للمرة الأولى له منذ أيار 2008، يوم استضافت قطر القادة اللبنانيين وإعلان اتفاق الدوحة،...

المزيد من هذه الأخبار

قطر من “استوكهولم”: سلام شامل أو حرب أوسع..

تاريخ طويل من التفاوض الدبلوماسي بين القوى المحلّية والعالمية أعطى قطر القدرة على المراوغة...

هل تُطرَد غادة عون من القضاء؟

مع تحديد موعد لمثول النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون أمس...

سياسيّو لبنان: “الأطفال الذين يلعبون بالرمل”؟

يرسم بعض المهتمّين الأجانب بأزمات لبنان صورة غير متفائلة جرّاء استمرار ربط الحلول فيه...

“الخُماسية” تُطلق مساراً رئاسياً حتى تموز: مشاورات أو عقوبات

ما تضمّنه بيان اللجنة الخماسية بعد اجتماعها أول من أمس في السفارة الأميركية، أحدث...

مهلة حزيران للحــزب: الرئاسة… أو نتنياهو

تعدّدت المهل التي أُعطيت لإنجاز الاستحقاق الرئاسي من دون أن تَصدُق أيّ منها. إلا...

“اليوم التالي” في غــزة ولبنان: الحرب اقتراح إسرائيل الوحيد

على دوي الحرب وهديرها، تتعدد مسارات البحث عن ما يسمى بـ”اليوم التالي” لغزة، وهو...

ماذا فعل “حــزب الله” في ملف النزوح؟

في 2 تشرين الأول 2023 تناول الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ملف...

“الخماسية” في عوكر: “صيانة” دوريّة للحلّ

انعقد أمس الاجتماع الخامس للّجنة الخماسية المُمثّلة لواشنطن وباريس والدوحة والرياض ومصر في مقرّ...

صمود الحزب وحماس و”انتصارهما”: معركة نهاية الحروب في المنطقة؟

قاعدة “الحرب سجال” و”الأيام دول”، هي التي يعتمدها حزب الله وحركة حماس في المواجهة...

إنتقاد “المجتمع الدولي”… لتغييب إيران عنه؟

قد يكون انتقاد المجتمع الدولي والحملة على مواقفه، سواء في ما يخصّ عبء النازحين...

تعقيدات المفاوضات الحدودية: الطلعات والإعمار والتنقيب

لا كلام جدياً في الرئاسة. يستعيد سفراء اللجنة الخماسية حراكهم من خلال اجتماع تستضيفه...

الجيش بين باسيل و السيّد!

استبق الأمين العامّ للحزب السيّد حسن نصرالله جلسة التوصيات النيابية اليوم في شأن هبة...

نصرالله “المنتصر”: وصيّ على مستقبل لبنان وسوريا ولاجئيها

يستعجل حزب الله إعلان انتصاراته. لا يريد لها أن تقتصر على لبنان فقط، بل...

وثيقة بكركي: إيجابية بو نجم لا تُبدّد الصعاب

ستعلن بكركي وثيقتها التي حملت عنوان «المسيحيون في لبنان إلى أين؟» في غضون أسبوع...

عين الخارج على هويّة الرئيس قبل الحدود

كلٌّ عالق في مأزقه الخاصّ. جو بايدن عالق في استحقاقه الرئاسي. بنيامين نتنياهو عالق...