ثلاث صور تختصر المشهد اللبناني في مسيرة تداعيه وتهافته.
الصورة الأولى، هي للانقسام بين جمهورين على شاطئ مدينة صيدا، تحتوي على افتعال لإشكالات تحت عنوان خصوصية كل منطقة ومدينة. وهذا ما يسهم في توجيه المزيد من الضربات إلى النموذج اللبناني، والذي كان يُعبر عنه بأنه نموذج منفتح وتتلاقى فيها تناقضات متعددة.
الصورة الثانية هي لمشاهد المناورة العسكرية الأضخم أمام وسائل الإعلام، والتي أجراها حزب الله في الجنوب.
أما الصورة الثالثة فهي للاشتباكات السياسية والإعلامية اليومية بين القوى المسيحية، المختلفة فيما بينها على استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية. وإلى جانب اختلافها فيما بينها، فهي تختلف في رؤيتها لجوهر ما تبقى من هذا اللبنان.
شاطئ صيدا
لا يحتاج مشهد صيدا إلى تفسيرات كثيرة. هو نموذج جديد للانعزال، أو لإشاحة النظر عن حقائق في مقابل النظر إلى ما يحلو للمرء أن يتراءى أمام ناظريه. تدفع صيدا مجدداً أثماناً لا علاقة لها بها أو غريبة عنها. صحيح أن المدينة تاريخياً مسالمة، وشكلت احتضاناً كبيراً للمقاومين اليساريين إبان الإجتياح الإسرائيلي للبنان، لكنه يقدّر للمدينة دوماً أن تدفع الأثمان، منذ جريمة اغتيال القضاة الأربعة، والتي كان رد الفعل عليها بمنع قيادة الدراجات النارية في المدينة، إلى الثمن الذي دفعته مع بروز ظاهرة أحمد الأسير. وتلك كانت محاولة لعزل المدينة عن محيطها القريب والبعيد، وصولاً إلى مشهد “فيدرالية البكيني”.
استعراض حزب الله
على المقلب الآخر، كان حزب الله يجري استعراضاً عسكرياً لقواته في لبنان بذكرى التحرير. مشهد استدعى ردود فعل كثيرة على الساحة الداخلية، خصوصاً أن كثراً من اللبنانيين فسروا ما يجري بأنه تأكيد من حزب الله على دولته، وترسيم حدودها، وإبراز النزعة التفوقية على الآخرين في لبنان.
للمشهد إشارات كثيرة، بعضها إظهار قوة الحزب وقدراته واستعداده لخوض أي معركة مع العدو الإسرائيلي. لكن المشهد ينطوي أيضاً على رسائل أبعد، ترتبط بمسار التهدئة والتوافقات في المنطقة، ويكاد يكون نقيضاً لها، لولا أن أحد تفسيراته سيذهب باتجاه القول إن الحزب أخرج قواته الكثيرة وقوته الكبيرة من سوريا، فيما لم يعد يحتفظ هناك إلا ببعض النقاط والمواقع، ولم يعد بحاجة إلى جحافل المقاتلين والآليات والدبابات، التي كانت قد ظهرت سابقاً في أحد العروض العسكرية في منطقة القصير.
جمهوريات
أما الصورة الثالثة والتي توجت بإعلان القوى المسيحية عن فشل التوصل إلى اتفاق رئاسي فيما بينها، تأتي كعنصر مكمّل لمواقف كثيرة أطلقت حول الذهاب إلى خيارات أخرى، في حال نجح حزب الله بإيصال مرشحه سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، ومن بين الخيارات المطروحة هو الطلاق أو الانفصال. وهذا بحدّ ذاته يتقاطع مع مبدأ “جمهورية حزب الله العسكرية” ومع مبدأ “جمهورية فوبيا البكيني”. وفي ذلك يتوسع الشرخ إلى مداه الشعبي، بعد أن كانت الطروحات تقتصر على المواقف السياسية، وتغلف إما بتقديم فكرة مشروع تقوم على “الفيدرالية” أو اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، أو مشروع فصل لبنان إلى منطقتين برعاية دولية، منطقة خاضعة للقوى المعارضة لحزب الله، ومنطقة أخرى خاضعة للحزب. حالياً يتوسع الشرخ على قاعدة أن هؤلاء يشبهوننا والآخرون ليسوا كذلك، وتتمدد لتطال الإعتراض العلني على مسألة دفع الضرائب والمتوجبات للدولة، والتفريق بين بيئات تدفع وأخرى لا تلتزم بالدفع، وصولاً إلى الصراع المفتوح منذ فترة في مناطق معينة على المشاعات العامة والسيطرة عليها، وتخصيصها لإنشاء الأبنية، من دون إغفال صراع عقاري مديد وقائم ومستمر على أراض في لاسا والعاقورة، والذي يأخذ طابعاً إسلامياً مسيحياً.
العزلات الكثيرة
كل ما يجري يعكس إعلاء منطق العزلة والإنطواء. هناك عزلة مسيحية تترجم انطواء سياسياً. وهي ناتجة عن ضعف في الأداء السياسي يعود لانعدام القدرة على تقديم أي فكرة أو مسار قادر على التغيير، فيختار الانطواء أو الذهاب إلى مقولة “لكم لبنانكم ولنا لبناننا”. في مقابل انطواء إسلامي ذات معايير دينية وتزمت محافظ ومتشنج، تعبيراً عن عجز سياسي أو فكري أو تعويضاً عن انكسارات سياسية وثقافية. إضافة إلى انطوائية حزب الله التي تحتاج إلى إبراز كل عناصر القوة العسكرية التي يتمتع بها. وهو ما تجلى في الصور التي وزعت عن المناورة التي أجريت في عرمتا.
وعلى الرغم من إدانة كل هذه المشاهد، والتي تكرس التخلف السياسي الذي ينعكس بتخلف اجتماعي، يقوم على رفع شعارات الطلاق والانفصال، إلا أن المسؤولية الأكبر تتحملها قوى سياسية وقوى اجتماعية، عجزت عن تقديم تصورات يمكنها أن تكون جامعة سياسياً ووطنياً. تشكل هذه المشاهد، تأكيداً ثابتاً لنظرية المجتمع المغلق، بمواجهة حتمية لنظرية المجتمع المفتوح على آفاق وخيارات متعددة.
مشاهد وخيارات تؤدي كلها إلى دفن الجمهورية، حتى قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.