قلتُ لسائق التاكسي الذي تجاوز السبعين عاماً: هل تعرف شارع مصدّق في حيّ الدقّي؟ أجابني بدون تفكير: طبعاً، وأعرف محمد مصدّق شخصياً. ضحكت وقلتُ له: إنّك تعرف اسمه الأوّل.. يبدو أنّك تعرفه فعلاً. قال لي: لقد شاهدته مع والدي وأنا طفل صغير. كان والدي يعمل في فندق شبرد، وقد جاء مصدّق إلى مصر ونزل بهذا الفندق. وقد رأيت آلاف الناس الذين جاؤوا لرؤيته، فاعتقدت أنّه ممثّل مشهور، لكنّ والدي قال لي: إنّه رئيس وزراء إيران محمد مصدّق، وهو بطل وطني كبير، لقد أمّم النفط في بلاده، ولذلك قام النحّاس باشا وحكومة الوفد بحشد الجماهير للترحيب به.
محمد مصدّق.. مصطفى النحّاس
كان حديث سائق التاكسي صحيحاً، فلقد قام مصدّق بتأميم النفط في ربيع عام 1951، وبعد ثمانية شهور زار مصر في خريف العام نفسه. وقد ذهب أكثر من مئة ألف مصريّ للترحيب به والاستماع إلى خطاب جماهيري يلقيه من شرفة فندق شبرد، لكنّ الزحام الشديد اقتضى أن يلقيه عبر الإذاعة المصرية.
كان الزعيم مصطفى النحّاس باشا معجباً بالمواقف الوطنية لحكومة مصدّق، وقد قرّر الاحتفاء بصاحب قرار التأميم.
حسب وثائق بريطانية نشرتها “بي بي سي” عام 2023 فإنّ حكومة النحّاس باشا كانت تخطّط لتأميم قناة السويس، إذ أكّد ممثّل بريطانيا أنّ حكومة الوفد بدأت بتمصير تدريجيّ للوظائف في القناة، وأنّ تأميم القناة في وقت قريب هو أمر وارد جدّاً.
في آذار 2023 رحّبت مصر بعودة العلاقات السعودية – الإيرانية، وقالت إنّها تأمل أن يعزّز ذلك الاستقرار في المنطقة والحفاظ على مقدّرات الأمن القومي العربي
حسب الوثائق ذاتها، فإنّ رئيس الوزراء جمال عبد الناصر أشار لاحقاً إلى احتمالات التأميم خوفاً من عدم قيام بريطانيا بتسليم القناة عام 1968، وهو ما حدث بالفعل عام 1956، بعدما أصبح عبد الناصر رئيساً للجمهورية.
تؤكّد الوثائق البريطانية أنّ عبد الناصر كان على صواب، فلقد كانت خطة بريطانيا هي عدم تسليم القناة في موعدها، وإحلال هيئة أجنبيّة محلّ الشركة الأجنبية، واستمرار حرمان مصر من القناة.
مستشفى المعادي العسكريّ
تدهورت العلاقة بين مصر وإيران في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لكنّها توثّقت لاحقاً بين شاه إيران والرئيس السادات.
كان موقف الشاه في أثناء حرب 1973 موقفاً جيّداً، وما تزال مصر تتذكّره حتى اليوم، ولمّا اندلعت الثورة الإيرانية عام 1979 أبدت مصر قلقها الشديد من سقوط الشاه، ولا سيّما مع صعود نجم آية الله الخميني بديلاً له.
لم يتردّد السادات لحظة واحدة في الوقوف ضدّ الثورة الإيرانية، ومعاداة الخميني، وربّما العمل على إسقاطه. لكنّ القَدَرَ كان أسرع من الرؤى، ففي عام 1980 توفّي الشاه في مستشفى المعادي العسكري بالقاهرة، وتمّ دفنه في مسجد الرفاعي بجوار ملوك أسرة محمد علي، وفي عام 1981 تمّ اغتيال الرئيس السادات.
كأنَّ الخميني كان ينتظر رحيل السادات، إذْ سرعان ما زادت الحملة الإعلامية ضدّه، وتمّ إطلاق اسم خالد الإسلامبولي قاتل السادات على أحد شوارع طهران.
اتّسعت المسافة أكثر وأكثر نتيجة دعم مصر للعراق في حربه ضدّ إيران. فقد كان مبارك داعماً أساسياً لبغداد وخصماً واضحاً لطهران، وشارك وزير الدفاع القويّ المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة بنفسه في بعض الخطط العسكرية للحرب، ولا سيّما في معركة تحرير الفاو.
في هذا الإطار قامت مصر بطرد رئيس بعثة رعاية المصالح الإيرانية محمود مهتدي عام 1987، وذلك لقيامه مع آخرين بمراقبة حركة السفن العراقية في قناة السويس.
خريطة الدم الإيرانيّة..
شهد عقد التسعينيّات محاولات لتحسين العلاقات بين البلدين، ففي عام 1990 كان السفير منير زهران أوّل شخصية رسمية مصرية تزور إيران، ولمّا سألتُ السفير زهران عن ذلك، قال لي: كان هناك اتجاه لعودة العلاقات بعدما انتهت الحرب العراقية الإيرانية، وقد استثمرنا رحيل أحد المراجع الدينية ليبدو الأمر وكأنّه واجب عزاء، لكن كنّا ندرس بشكل متبادل عودة العلاقات بين البلدين.
كانت طهران في ذلك الوقت، كما هي دائماً، تتحدّث بصوتيْن لا صوت واحد: صوت التيار الذي يتحدّث عن الدبلوماسية، وصوت التيار الذي يبحث عن خريطة للدم.
في عام 1992 قال الرئيس مبارك بوضوح: الرئيس هاشمي رافسنجاني أرسل لي يطلب رفع مستوى العلاقات مع مصر، لكنّ المشكلة أنّ هناك لغتَيْن في إيران، هذه اللغة ثمّ لغة أخرى نفاجئ بها في اليوم التالي!
مرّت عشر سنوات من دون جديد، وفي عام 2003 كان أوّل لقاء رئاسي مصري إيراني منذ ربع قرن، التقى فيه مبارك والرئيس محمد خاتمي في أثناء حضورهما قمّة دولية لمجتمع المعلومات.
ما إنْ أعلنت السعودية وإيران في الصين عودة العلاقات بين البلدين، حتى بدأ ساسة إيرانيون يتحدّثون عن عودة وشيكة للعلاقات مع مصر
العلاقة مع مصر تمرّ عبر الخليج
في صيف 2012 قام محمد مرسي بزيارة طهران، وفي ربيع 2013 زار محمود أحمدي نجاد القاهرة. كانت الزيارتان صدمتَيْن في مصر، فلا أحد يعرف هل تمّت دراسة هذه الخطوات السريعة أم لا، ولا ما الذي تريده إيران من الإخوان، أو يريده الإخوان من إيران، ولا سيّما مع زيارة مريبة قام بها قاسم سليماني للقاهرة، لبحث تأسيس جهاز أمني خاصّ لحماية “الجماعة” على غرار الحرس الثوري الإيراني.
قادت ثورة 2013 وسقوط حكم الإخوان إلى إغلاق تلك الصفحة التي كان عنوانها صورة أحمدي نجاد وهو يرفع علامة النصر في القاهرة.
في عهد الرئيس عدلي منصور عادت الأمور كما كانت، ولا سيّما بعد الهجوم الإعلامي الإيراني على الثورة المصرية، وكان الحدث الأبرز في عهد الرئيس منصور هو اللقاء بين وزير الخارجية المصري نبيل فهمي ووزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي طلب من فهمي طيّ صفحة الماضي.
في أثناء ترشّحه للرئاسة المصرية قال المشير السيسي إنّ “إيران تدرك تماماً أنّ العلاقة مع مصر تمرّ عبر الخليج العربي”. وقد ظلّت هذه الرؤية هي السائدة حتى عودة العلاقات السعودية – الإيرانية عام 2023.
القاهرة – طهران.. وبينهما السلطان
في عام 2022 تحدّثت الخارجية الإيرانية عن لقاء لوزيرها حسين أمير عبد اللهيان مع الرئيس السيسي في العاصمة الأردنية عمّان، وكان ذلك على هامش قمّة “بغداد – 2″، وقالت إنّه لقاء قصير لكن إيجابي.
في آذار 2023 رحّبت مصر بعودة العلاقات السعودية – الإيرانية، وقالت إنّها تأمل أن يعزّز ذلك الاستقرار في المنطقة والحفاظ على مقدّرات الأمن القومي العربي.
ما إنْ أعلنت السعودية وإيران في الصين عودة العلاقات بين البلدين، حتى بدأ ساسة إيرانيون يتحدّثون عن عودة وشيكة للعلاقات مع مصر.
تمثّلت الخطوة الأولى في هذا الصدد في إجراء مفاوضات قنصلية بين القاهرة وطهران، وكانت الخطوة الثانية إعلان وزير السياحة المصري تقديم تسهيلات للوفود السياحية الإيرانية للسياحة في مدينة شرم الشيخ. وبدورها ردّت الخارجية الإيرانية بأنّها لا تفرض أيّة قيود على سفر المصريين إلى إيران، وبعد قليل أعلنت شركة الطيران الإيرانية الاستعداد لتسيير رحلة يومية بين القاهرة وطهران.
ثمّ كانت الخطوة الثالثة تصريح الخارجية الإيرانية بأنّها تريد توسيع العلاقات مع مصر، لكنّ إرادة القاهرة هي التي يمكنها تسهيل ذلك.
وقد جاءت الخطوة الرابعة من قبل المرشد الأعلى علي خامنئي الذي رحّب باستئناف العلاقات مع مصر.
بالتوازي مع هذه الخُطى، أعلن برلمانيون إيرانيون أنّ العلاقات مع مصر في طريقها إلى العودة، لكنّ وزير الخارجية سامح شكري نفى ذلك وقال إنّه لا علم له بمفاوضات في هذا الصدد.
ربّما لم تكن الخارجية المصرية منخرطة بالفعل في هذه الاتصالات، وربّما كانت الاتصالات على المستوى الأمنيّ لم تكتمل بعد. لكنّ زيارة سلطان عُمان هيثم بن طارق للقاهرة ثمّ طهران قد أكّد متابعون لها أنّ أحد أهدافها الرئيسية هو التمهيد لعودة العلاقات المصرية الإيرانية.
قبل أيام قام السيّد عمّار الحكيم بزيارة مصر، والتقى بالرئيس السيسي، وزار الإمام الأكبر شيخ الأزهر، ولمّا التقيتُ السيّد الحكيم في عشاء بفندق “جي دبليو ماريوت” بالقاهرة سمعتُ منه أنّ هناك جدّيّة من الجانبَيْن السعودي والإيراني بشأن المصالحة، وأنّه سمع من الأمير محمد بن سلمان قوله: “لا أريد انتظار تعزيز الثقة، فهذا يأخذ وقتاً طويلاً.. سوف نراقبه بالفعل، لكن نريد مسار التعاون الآن”.
لم يُجِب السيّد الحكيم بشكل صريح حين سُئل هل يحمل رسالة للرئيس السيسي بشأن العلاقة مع إيران، لكنّ الأمر بدا كذلك، ولمّا دار الحديث عن أسباب تلك التحوّلات السريعة في المنطقة، وأسباب التغيير المفاجئ بين إيران والسعودية، وربّما إيران ومصر، قال: السعودية وإيران لم تتغيّرا، وإنّما المصالح هي التي تغيّرت.
هل تحلّ السفارات الملفّات المعقّدة؟
قال لي أكثر من مصدر إنّ الأسابيع المقبلة قد تشهد لقاء بين الرئيس السيسي والرئيس إردوغان في القاهرة، ولقاء آخر بين الرئيس المصري والرئيس الإيراني في مسقط.
لم يعد السؤال الآن متى تعود العلاقات المصرية التركية، والمصرية الإيرانية، وإنّما أصبح السؤال: هل تصمد هذه العلاقات؟
إنّ الملفّات المعقّدة من لبنان إلى سوريا، ومن العراق إلى اليمن لا تكفي لحلّها عودة السفراء، فما إن نبدأ في فتح الملفّات الحقيقية والشروع في السباحة في بحر الظلمات حتى يبدأ الجهاد الأكبر. حينئذ لن يكون الأمر يسيراً كمصافحة عابرة أو التقاط صورة جديدة.
هل تستطيع إيران المتصالحة أن تنتصر على إيران المتصادمة، وأن تتحدّث بصوت واحد يتضمّن وقف التمدّد والتدخّل، واحترام سيادة الدول، أم الأمر التقاطة أنفاس وحسب إلى أن تهدأ ثورة الشباب في شوارع إيران، فتعود طهران بعدئذٍ، كما قال مبارك ذات يوم، إلى التحدّث بلغتين: لغة المصالحة اليوم.. ولغة أخرى غداً؟!