توحي الاستطلاعات الجارية لميزان القوى الانتخابي في مجلس النواب بأنّ هناك سباقاً على الأصوات بين مرشّحَين اثنين لرئاسة الجمهورية، حتى إنّ هناك من يتخيّل سيناريو مُعاداً للمعركة بين سليمان فرنجية الجدّ والياس سركيس عام 1970.
للمفارقة أنّ سركيس كان ذا وجه اقتصادي فيه شيء من صبغة الاقتصادي التكنوقراطيّ الآتي من حاكمية مصرف لبنان، ولو بنكهة سياسية واضحة. لكنّ سليمان فرنجية الحفيد لن يكون جدّه في جلسة مجلس النواب في 14 حزيران الجاري، كما أنّ جهاد أزعور لن يكون الياس سركيس آخر رغم التشابه في الاختصاصات.
هل بالإمكان تخيّل سيناريو يفوز فيه مرشّح بفارق الأصوات، ولو صبّ 27 نائباً شيعياً أصواتهم ضدّه؟ أم هل بالإمكان أن يخسر مرشّح يصبّ معه الإجماع الشيعيّ؟
توحي الاستطلاعات الجارية لميزان القوى الانتخابي في مجلس النواب بأنّ هناك سباقاً على الأصوات بين مرشّحَين اثنين لرئاسة الجمهورية، حتى إنّ هناك من يتخيّل سيناريو مُعاداً للمعركة بين سليمان فرنجية الجدّ والياس سركيس عام 1976
هذا السؤال أكثر مركزية وأصعب تخيّلاً من خسارة مرشّح تصوّت له أكبر ثلاثة أحزاب مسيحية، وتؤيّده ضمناً البطريركية المارونية.
منذ عام 2008 دخل لبنان نظاماً هجيناً حافظ على عنوان الطائف، لكن مع إضافة أعراف فرضها اجتياح بيروت في 7 أيار، وكرّسها اتّفاق الدوحة. منذ ذلك الحين لم تتشكّل حكومة واحدة من دون توقيع الحزب، ومن دون الثلث المعطّل، على الأقلّ، للحزب وحلفائه. وكان ميشال سليمان آخر رئيس تسوية. إذ إنّ انتخاب ميشال عون في 2016 كان عنوانه التوافق بالإكراه. ولم يجد الأمين العامّ للحزب حرجاً في القول علناً إنّ المعادلة هي: ميشال عون أو الفراغ.
ليس منتظراً أن يتواضع الحزب إلى حدّ التخلّي عن قدرة الفرض تلك. وقد تبرّع حزبا “القوات” و”الكتائب” بشرعنة سلاح تعطيل النصاب، ليصبح بمنزلة العرف الدستوري، بعدما كان حتى وقت قريب افتئاتاً و”سلبطة” على الدستور بقوّة السلاح، أقلّه بنظر نصف اللبنانيين.
أبعد من حساب الأرقام
يكاد الجاهدون لجمع 65 صوتاً لمرشحهم ينسون كيف منع الحزب انتخاب رئيس بالنصف +1 بعد خروج إميل لحود من القصر عام 2007، حين كانت الأكثرية النيابية الصريحة بيد “14 آذار”، أو كيف قلبت القمصان السود نتيجة الاستشارات النيابية الملزمة لتأتي بحكومة اللون الواحد مطلع عام 2011. وعلى المنوال نفسه، لم يكن للأرقام وزن في انتخاب ميشال عون. ولذلك فإن تعطيل النصاب من جانب الحزب ليس مجرد تكتيك انتخابي، بل هو تعبير عن قدرته على فرض معادلة “مرشحنا أو الفراغ”.
لا يخطئ رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل الحساب هنا. فهو يدرك أنّ فائض القوّة والسلاح لدى الحزب لا يسمح بخسارته في جلسة 14 حزيران أو في سواها بفارق الأصوات. ولذلك فإنه يضع مناورته بترشيح جهاد أزعور في إطار مرسوم بين حدّين: يقول من جهة إنّه ممتعض من فرض رئيس على المسيحيين، ثمّ يؤكّد، من جهة أخرى، وجوب التوافق مع المكوّنات الأخرى (يقصد الحزب ولا أحد سواه) على اسم الرئيس العتيد:
– في الحدّ الأوّل يلعب الورقة المسيحية في مواجهة تفرّد الثنائي الشيعي بترشيح فرنجية من دون الوقوف على خاطره.
– وفي الحدّ الثاني، يلعب ورقة الحزب في وجه “رفاقه” المسيحيين. وكما يواجه الحزب بمقولة: “لا رئيس بلا موافقة من المسيحيين”، سيقول للمسيحيين في ساعة الجدّ: “لا يمكننا انتخاب رئيس من دون التوافق مع الحزب”.
يكاد الجاهدون لجمع 65 صوتاً لمرشحهم ينسون كيف منع الحزب انتخاب رئيس بالنصف +1 بعد خروج إميل لحود من القصر عام 2007، حين كانت الأكثرية النيابية الصريحة بيد “14 آذار”
بانتظار “تلفون” من “الحارة”
لا يمكن وضع زيارة عون إلى دمشق أمس إلا في إطار التأكيد أن كل ما يجري من مناورات داخل البيت المسيحي لا يغيّر شيئاً في تموضع تياره الاستراتيجي إلى جانب حلف الممانعة، حتى وإن تعمّد باسيل إعطاء إشارات إلى الخارج باستعداده للابتعاد عن الحزب بقدرٍ ما، ولا سيّما في تصريحاته للإعلام الخليجي (أجرى مقابلتين خلال أيام قليلة مع جريدة “القبس” الكويتية وقناة “الحدث” السعودية).
حتى الآن، يبعث الحزب رسائل بأنّه لن يخضع لابتزاز باسيل، ويتوعّده بأنّه سيتركه في ثلّاجة الانتظار إلى أن يتعب، تماماً كما فعل مع الآخرين حين عطّل المجلس النيابي لأكثر من عامين لإيصال ميشال عون إلى قصر بعبدا.
وسط هذه اللعبة المكشوفة، لا شيء يحيّر أكثر من انخراط “القوات” في لعبة معروفة الحدود والنهاية. يسمع سمير جعجع بأذنيه باسيل وهو يقول إنه لن يستفز الحزب إلى النهاية، ولن ينتخب رئيس مواجهة، وأن “التقاطع” ليس خطة مرحلية للوصول إلى “التوافق” مع الحزب، ومع ذلك يرى في التقاطع مع باسيل “ضربة معلم” لإحراج الحزب وقطع الطريق على فرنجية.
يجب أن يُسأل جعجع عن أفق هذا المسار، وماذا سيكون دوره حين يستسلم الحزب لضرورة “التوافق”؟ لدى باسيل فكرة واضحة عن الحركة التالية على رقعة الشطرنج. فهو ينتظر أن يسقط اسما فرنجية وأزعور معاً ليتلقّى اتصالاً من حارة حريك، وعندها سيفاوض الحزب وحده، لتحصيل شيء ما، ولن يلتفت إلى الذين تقاطعوا معه دون أن يلتزم معهم ببيان مشترك أو صورة أو لقاء علني. هكذا تصبح استحالة التواصل بين الحزب والمعارضة المسيحية ورقةً يلعبها التيار العوني بهدوء لصالحه، منتظراً اقتناع الطرفين بعدم القدرة على الحسم. ولن يغيّر الانقسام العوني شيئاً في هذه المناورة، بل إنّه يغطّي عليها من حيث إنّه يقدّم تبريراً للتراجع عن خيار أزعور في المرحلة التالية.