انتهى الإنسان العربي إلى إقناع نفسه بأن النسيان منجاة. الخريطة المترامية الأطراف، من المحيط إلى الخليج، ليست إلا تجسيداً مستداماً للعنف والقمع والمنع. قتل الذاكرة مريح. من يأكل طعاماً جديداً بوعاء ذاكرته القديمة، يُصاب بالخوف والأرق والتسمم. الذاكرة العربية الشعبية تتخثر، وإن شعباً يقتل ذاكرته يموت. الأموات عندنا.. أحياء يرزقون. البديل العربي هو أن تحلم بالثروة، إن كنت في مساحات النفط المنتشرة والسخية، بشرط أن تلتزم الصمت الهرمسي، بكل ما له علاقة بالحرية. الصمت من ذهب. الكاتب البيرتو مورافيا قال: “الثراء حالة غير إنسانية، أنا فقير، إذاً أنا انسان”. هذا كلام غير مجدٍ.
الإنسان العربي مطلوب منه أن ينجح في إمتحان الإملاء. وعليه، فإن موت النفس والعقل والحرية، أفدح بكثير من موت الجسد. التفكير حسابياً أجدى، التفكير السياسي، خطر جداً. لذلك، لا بد من التعلق بخرافة النجاح والكسب. هناك عالم يجب إلغاؤه كلياً. وهناك بديل قاهر، تعويضاً عن الحرية والحق والحقوق والتعبير. وإن سألت الشاعر محمد الماغوط، عن الزمن الذي ضاعت فيه الحقوق، حقوق الإنسان، يجيب: “منذ بدء التاريخ”، وليس ممكناً أن نطالب بها الآن. تأخر الشعب عن المطالبة بحقوقه خوفاً من عواقب الإلغاء، يؤكد لك أن الحقوق ماتت من زمان. “ماتت بسبب التقادم”. أتقن الشاعر الماغوط لغة المسخ. إنها لغة تتناسب مع المسوخ الإنسانية. التقى الماغوط مع القاص، زكريا تامر، قصته فضيحة عربية كاملة. الأسد أسيرٌ في قفص، يطلب منه صاحبه أن ينهق. غضب الأسد، أغراه مراراً فلم يفلح. ظلّ الأسد منيعاً. أيقن المروّض أن معدة الأسد هي التي تأمر. منع عنه الطعام. منع عنه الماء. جاع الأسد. تضَوّر. فكّر قليلاً، وأغمض عينيه، بعد عشرة أيام من الحرمان، وطفق ينهق. وهكذا يتم تطويع الإنسان العربي فيصير حماراً ينهق ويرجو سيده أن يُصفّق له كي يرقص. المهم أن نفهم أن العربي مقيم في سيرك على شكل دولة. نضع الخريطة العربية في موازاة الخرائط الغربية.
يرى فيها “المواطن، أنظمة مستقرة وقوانين مقدسة وبرلمانات حقيقية ومعارضة وصحفاً حرة وإذاعات حرة ونقابات حرة وقضاء محترماً وحقوقاً مصونة ومناهج.. واختراعات.. وشوارع نظيفة وشرطة مهذبة وتماثيل متعانقة و..”. ثم يقف العربي ينظر إلى الخريطة العربية، لا يحتاج إلى مخيلة أو ذكاء. فقط، عليه أن يصدق أمام نفسه، بعدما كذب عليها جيلاً، خوفاً على رغيف أو وظيفة أو مرتبة. يقف أمام خريطة بلاده ومدنها: “صراصير في الصيف. وحولٌ في الشتاء. جوع. قهر. اضلاع بارزة. شفاه مشققة، أرجل حانية، أزقة مظلمة، كلاب شاردة، أسنان نخرة. مياه مقطوعة. كهرباء معتمة. قمامة من النوافذ، تبوُل على الجدران، وكذب بعده كذب، زحام خلف زحام. نميمة. صمت. فظاظة الشرطة. قضاء يصَوب ويصيب، وفق جدول الأوامر. ازدهار الكذب. تقارير جاسوسية. بؤس غير سري، علني جداً.. وبعد هذا الطواف، لن تجد إنساناً حراً. ومن لا يصدق هذا الوصف، فليزر السجون العربية. إنها مكتظة بالأبرياء.
جريمتهم أنهم قالوا قولاً صحيحاً”. يسأل الماغوط مذيعاً تلفزيونياً، لِمَ تقرأ اخباراً كاذبة، بلا مصادر، وتقولها بجدية. الجواب: “أريد أن أعيش”.. يسأل الصحفي المبدع حامل لواء الصدق والحقيقة لم تقوم بتغطية تفاهات ومحاضرات رسمية ملفقة و.. الجواب: “أريد أن أعيش”. وهذا ما نجده عند الأستاذ والدكتور الجامعي. الجواب: “أريد أن أعيش”، وهذا ما يرعبنا. وعندما تسأل الشرطي، لِمَ تجلد الأبرياء؟ وأيها الموظف، لِمَ تبتز العالم؟ أيها القاضي، لِمَ تصدر أحكاماً لا تؤمن بعدالتها؟ الجواب المقنع والمذل: “نريد أن نعيش”. ويتساءل الماغوط عن الغد العربي، عن العدو الملازم لحياتنا، ويسأل الملعقة لماذا هي عدو الشبع؟ والرغيف لم يطالبنا بوثيقة إستسلام؟ يصرخ أخيراً: “أيتها اللقمة الصغيرة، أنت إسرائيل الكبرى”. الدول والدويلات والإمارات والجمهوريات والأنظمة، أنتم الأعداء الحقيقيون لهذه الشعوب، التي تُدرّب على الرقص في بلادكم، وعلى الزحف على الجبين، وعلى معاقرة الذل، بألم فادح. لماذا كل ذلك؟ من أين جاءت هذه الكارثة؟ كيف يتم تحويل الإنسان إلى لعنة مكبوتة؟ إن الألم بليغ ونظيف ومنطقي. نحن لسنا بشراً إلا عندما نتألم. ننسى أننا بشر إذا صرنا قروداً ترقص كي يُطرب السلطان. أحيانا، نُصاب بالعجز. نسأل متى ننهض من هذا المسار؟ نقترب من السؤال الخطير؟ لماذا هذه السلطات الفجة تخشى من الحرية؟ يسأل الماغوط مذيعاً تلفزيونياً، لِمَ تقرأ اخباراً كاذبة، بلا مصادر، وتقولها بجدية.
الجواب: “أريد أن أعيش”.. وهذا ما نجده عند الأستاذ والدكتور الجامعي. الجواب: “أريد أن أعيش”، وهذا ما يرعبنا. وعندما تسأل الشرطي، لِمَ تجلد الأبرياء؟ وأيها الموظف، لِمَ تبتز العالم؟ أيها القاضي، لِمَ تصدر أحكاماً لا تؤمن بعدالتها؟ الجواب المقنع والمذل: “نريد أن نعيش” الجواب واضح أيها السطحي. الحرية ألد أعداء الأنظمة العربية.
الترسانات السياسية العربية، مسيجة بالممنوع. وظّفت الآيات والإجتهادات لصالح أمر بليغ الخطورة: الطاعة.
إذاً، أنت إنسان مطيع، فأنت عربي بالتمام والكمال. الحرية وباء سياسي، وهذا الوباء الذي يشفي البشرية من العبودية والظلم، هو “وباء الحرية” الجميل.
وعليه، من دون حرية لن يسقط نظام، ولن يُعزل ملك أو رئيس أو زعيم أو مارشال أو.. أخو سياسة. قوته في إعدام الحرية، والتجسس عليها، وملاحقتها، وإعدامها.
البديل عن الحرية، طوفان من الكذب البراق، والتفوق الكاذب، والإحترام الدولي إلى آخر معزوفة العار. الحرية، من دونها، لن يتحرر الإنسان العربي، ولن تتحرر الأرض، ولن تسقط أنظمة. من دون حرية لا حق ولا حقوقاً. لن تكون اللغة صادقة بالمرة. كل ما تسميه تدجيل. استعمل حذاءك لتكنس ما يقولون ويفتون ويبررون.
يُفسّرون الواقعية على طريقتهم. واقعيتهم “حكمة مزيفة”. الواقعية تفرض ما يلي: “لن يُستعاد حق ولن يُشبع جائع أو يُنصف مظلوم أو يُعاقب ظالم”.. ولبنان نموذجٌ فذٌ لعدم محاسبة المرتكبين، لأكبر الكبائر. آلهتنا في لبنان يصلحون للإقامة في قمامة الأزقة. أخيراً يطالبنا الماغوط بأن نوزع البشرى عبر نشيد بليغ: “فلننفض أفواهنا من طعامهم. وجلودنا من ثيابهم. وأقدامنا من أحذيتهم. ومعاصمنا من ساعاتهم. وآذاننا من أخبارهم، وعيوننا من مناظرهم”. ما ينقصنا في هذه الجغرافيا العربية، هو الوطن. نعم الوطن الحر بشعب حر. وأخجل أن أقول أن “إسرائيل” أنشأت وطناً من المستحيل، بينما أقدم زعماء العرب على جعل الوطن، منصة لأحذيتهم. كنت أظن أن فلسطين وحدها محتلة. كم كنت غبياً. الأراضي العربية كلها محتلة. ما أبدع أن تكون عدواً لهذا الإحتلال. وعليك أن تتمسك بالأمل الإنساني، ولا تعوَّل على الخرافات والمعتقدات والملل والنِحل والغرب والشرق.. وعلى “الزعماء” الأشد خطراً على الإنسان. علينا أن نخرج من تاريخنا المأساوي.