كما في كلّ مرّةٍ ومنذ بداية الحرب على غزة وقبلها الحرب في لبنان أو اليمن أو العراق أو سوريةٍ تقول الولايات المتحدة إنّها لا تريد توسيع الحرب، وتريد من إيران أن تستكين. لكنّ إيران لا تستكين، وفي النهاية تحصل صفقة صغيرة أو كبيرة تبقى سرّية إن لم يكشفْها الإعلام الأميركي. وهذه هي عادة الولايات المتحدة: دائماً نصف حلّ وميل إلى إدارة الأزمة أكثر من البحث والعمل على إنهائها. وهكذا حصل قبل إيران وبعدها مع صدّام حسين ومع طالبان. فقد أخرجت صدّام من الكويت مهزوماً عام 1990، لكنّها لم تقضِ عليه وتركته وهو مهزوم يضرب البصريّين الذين تمرّدوا عليه ويتدخّل في المنطقة الكردية. وحصل الشيء نفسه مع طالبان، فبعد احتلال أفغانستان وطردها إلى باكستان والجبال وحتى إلى إيران هدأ الوضع حتى عام 2008، ثمّ عادت طالبان تعمل في الأرياف، وتتناكف مع القوات الأميركية حتى بدأت مفاوضات بينهما في قطر عام 2014، وعلى الرغم من التوافق الظاهر عادت طالبان إلى السلطة في أفغانستان وانسحب الأميركيون شبه هاربين عام 2021. وحصل الأمر نفسه في التعامل مع سورية، فقد أراد أوباما ضرب النظام السوري إذا استخدم الكيمياوي، فلمّا استخدمه عام 2013 أخلف وعيده واتّفق مع الروس على إزالة كيمياوي النظام وما حصل ذلك، لكنّ النظام نجا بمساعدة الإيرانيين والروس واكتفى الأميركيون بحماية الأكراد والقواعد الصغيرة على الحدود بين العراق وسورية والأردن، وهي القواعد التي تضربها الميليشيات العراقية فيردّ عليها الأميركيون بعنفٍ لأوّل مرّةٍ تقريباً. وقد كانت علاقات الولايات المتحدة متوتّرة مع الحشد الشعبي العراقي وفصائله التابعة لإيران منذ عام 2016.
كما في كلّ مرّةٍ ومنذ بداية الحرب على غزة وقبلها الحرب في لبنان أو اليمن أو العراق أو سوريةٍ تقول الولايات المتحدة إنّها لا تريد توسيع الحرب، وتريد من إيران أن تستكين
حصلت ضربات صغيرة بينهما فتتدخّل الحكومات العراقية ويهدأ الوضع إلى حين، إلّا مرّةً واحدةً عندما قتل الأميركيون سليماني على مقربةٍ من مطار بغداد فانفعل الجميع وضربت إيران قاعدة عين الأسد، ثمّ عاد الوضع إلى الهدوء النسبي والمقلقل إلى أن حصلت حرب غزة فتبارت الميليشيات المتأيرنة في مهاجمة القواعد الأميركية، وتكفّلت إسرائيل بردع الحزب. وهو الذي حصل باليمن، فقد جاملت الولايات المتحدة والقوى الغربية الحوثيين بحجّة ضرورة الوصول إلى اتفاقية سلام تجعلها الضربات الغربية صعبة. إنّما عندما تدخّل الحوثيون في البحر الأحمر وبحر العرب فأضرّوا بالمصالح الغربية وجّهت لهم الولايات المتحدة وبريطانيا أخيراً ضربات جوّية قاسية. فهل تغيّر سلوك الولايات المتحدة أخيراً أم أنّها ضربات للإقلاق وسيعود الأمر للمهادنة والتصافُق؟!
الحسم فقط مع صدّام
مرّةً واحدةً كانت الولايات المتحدة خلالها حاسمة: إسقاط صدّام حسين. وقد سُرّ كثيرون للموضوع، لكنّ العراق ما تسوّتْ أموره منذ ذلك الحين، والولايات المتحدة هي المسؤولة. الخبير الاستراتيجي كوردسمان الذي أصدر كتاباً عن الحرس الثوري عام 2007 لا يؤيّد سياسة الخطوتين إلى الوراء من أجل خطوة إلى الأمام، لكنّ سياسات الحسم في أوضاع وسياقات شديدة التعقيد مثلما حصل بالعراق ليست أمراً حكيماً، فربّما تكون سياسات الاستيعاب Containment هي الأفضل والأقلّ كلفة ومسؤولية على الرغم من أنّ الأزمة تستمرّ.
هل كانت سياسات المهادنة مع إيران على الأقلّ خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة مفيدة؟ في عام 2015 حصل الاتفاق النووي الذي أبطله ترامب عام 2018. وفي حملة بايدن الانتخابية عام 2019-2020 قال إنّه سيعود للاتفاق النووي وسيعمل على تحسين العلاقات مع إيران. وبعد فوزه بدأت مفاوضات عسيرة للعودة للنووي وتحسّنت العلاقات مع الحوثيين وجزئيّاً مع الحزب.
في مطلع عام 2021 بدا أنّه ستحصل صفقة كبيرة أو متوسّطة الحجم بين الطرفين، وتبيّن ذلك في تبادل أسرى وفي الإفراج عن أموال لإيران. إنّما الغريب أنّ إيران في ربيع عام 2023 كانت تُعدُّ لحربٍ ضدّ إسرائيل يجمع لها حسن نصر الله “الساحات”. وما ظهرت الميليشيات العراقية يومها في الصورة، بل الجهاد الإسلامي وحماس التي كان يراد إقناعها بشنّ الحرب. ومنذ بدأت الحرب تجلّت “وحدة الساحات” بهياج الميليشيات بلبنان والعراق واليمن على الولايات المتحدة وقواعدها في العراق، وعلى إسرائيل من جنوب لبنان، وعلى الملاحة البحرية في البحر الأحمر وبحر العرب. وظلّت الولايات المتحدة لأكثر من شهرين تبعث الرسائل في كلّ الاتجاهات أنّها لا تريد توسيع الحرب، دون أن يوقف ذلك هجمات الميليشيات الموالية لإيران في كلّ اتجاه. وأخيراً ضربت الولايات المتحدة ضربات قاسية في العراق وسورية واليمن: فهل غيّرت الولايات المتحدة سياساتها في مهادنة إيران مهما حصل، فصارت الدقّة بدقّة كما يقول شكسبير؟!
كلمة السرّ: حلّ الدولتين
إنّ مئات الضربات في الميادين الثلاثة ما هدّأت الجمهوريين الأميركيين الذين يريدون ضربات أشدّ ولو بداخل إيران بعد مقتل ثلاثة جنود أميركيين، وتضرّر الملاحة البحرية. السائد أنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية على الأبواب ولا يريد الرئيس الأميركي حرباً شعواء. والشائع أنّ الأميركيين يشبّهون الوضع الآن بما كان عليه عام 1990-1991 عندما أرغم الأميركيون صدام على الانسحاب من الكويت في ما بدا هزيمةً عراقية، ثمّ اندفعوا باتجاه الحلّ الفلسطيني والعربي في مؤتمر مدريد. والمفروض أنّه على مشارف توقّف الحرب في غزة سيسعى الأميركيون إلى حلّ الدولتين يساندهم الأوروبيون والعرب.
هل يكون الاتجاه للتسوية ممكناً على أثر ضرب حماس أم لا بدّ أيضاً من ضرب ميليشيات إيران لأنّ إيران الكاسبة بالحروب الآن، لن تقبل بإخماد الجبهات دون بلورة المكاسب؟ فهل تكون الضربات الأميركية علّتها إرغام إيران على التسليم بالتفاوض السلمي، وإيقاف حركة ميليشياتها التي تتوعّد بالردّ السريع؟! ألا بدّ أن تنكسر جبهة الحرب أو المقاومة ليمكن الدخول سلمياً على حلّ الدولتين؟ أم أنّه ردٌّ عصبيّ ويعود الأمر إلى طاولة التفاوض التي تأباها إسرائيل الآن، ويأباها كذلك الإيرانيون؟
إنّ الثابت الآن أنّ مفاوضات حلّ الدولتين هي كلمة السرّ لدى سائر الأطراف ما عدا إيران وإسرائيل. لكنّ إسرائيل على طاولة التفاوض وليست إيران كذلك. فهل تكون الضربات القاسية لإرغام الإيرانيين على تخلية الملفّ الفلسطيني، أم أنّ المطلوب إضافةً إرغام إسرائيل على وقف الحرب، وعلى التسليم بحقّ الشعب الفلسطيني في دولة؟ مَن الطرف الذي يتنازل أوّلاً؟ إنّ المشكلة أنّ إيران مثل إسرائيل لا تستطيع أن تخسر مهما كلَّف الأمر. وهذه هي الحزّورة كما يقال: ما عادت السياسات التقليدية بين إسرائيل والولايات المتحدة بالنسبة للحلّ مع الفلسطينيين سهلة الإقرار. وفي الوقت نفسه لا تسمح السياسات الأميركية التقليدية مع إيران بالتقدّم باتجاه الحلّ، فيكون على الولايات المتحدة أن تصوغ “الخطاب” وتحصل بالضغط على موافقةٍ عليه من جانب إسرائيل ومن جانب إيران. وإذا كانت علاقات الولايات المتحدة مع إيران حزّورة، فإنّها لم تعد أقلّ غموضاً مع إسرائيل. ولذلك لا بدّ من الانتظار المكلف دماً ودموعاً وعمراناً وآمالاً إنسانية.