في مراقبة مسار العمليات العسكرية في جنوب لبنان، بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي، لا بد من تسجيل ملاحظات كثيرة. بعضها “تفاصيل” وبعضها الآخر ذات مدى أبعد. لكن تجميع هذه النقاط يشير بلا شك إلى جملة مسائل، أولها أن الجنوب اللبناني قد أضحى في حالة حرب حقيقية، آخذة بالتوسع رويداً رويداً.. إلى جانب تصاعد تهديدات الإسرائيليين لفرض اتفاق “يعيد الأمن والاستقرار” إلى مستوطناته الشمالية، بالدبلوماسية أو باللجوء إلى حرب. هذا بغض النظر عن القدرة الإسرائيلية على تحقيق ذلك عسكرياً. لكن لبنان اليوم يرزح بين احتمالين. إما اقتناع حزب الله بالردع السياسي أو البقاء أمام معادلة الردع التي يختارها، وتكاليفها التي ستكون مرتفعة جداً.
تدفيع الثمن لإيران
لا يمكن فصل مسار الجبهة اللبنانية عن الحرب على قطاع غزة، وكل التطورات التي تشهدها المنطقة، خصوصاً أن تحركات الحوثيين ضد الملاحة في البحر الأحمر وجماعات إيران في العراق ضد الأميركيين، بالإضافة إلى تحركات حزب الله ضد الإسرائيليين.. كلها تندرج ضمن سلة واحدة للبحث عن تسوية لها، أو الاتجاه نحو التصعيد الأكبر. في هذا السياق برز تشكيل تحالف دولي لمواجهة الحوثيين في البحر الأحمر أو حماية الملاحة فيه. وهذا يبقي احتمال التصعيد قائماً، إلى جانب اضطرار الأميركيين إلى الإقدام على خطوات تفرض استعادة الهيبة في العراق والرد على كل الاستهدافات. نقطتان يمكن لهما أن يؤديا إلى تصعيد الأمور في المنطقة ككل.
ثمة من يعتبر أن الإيرانيين يستنفدون بذلك كل أوراق التهديد، بينما دولياً ثمة من يبحث عن تدفيع طهران الثمن، خصوصاً أنها عملت لعقود على استثمار حلفائها في تهديد الملاحة بالبحر الأحمر، وتهديد القواعد الأميركية في العراق وسوريا، وتهديد أمن اسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان. وكأن هناك من أراد ترك إيران تستخدم كل هذه القوى باعتبارها رفعت سقف التهديد إلى مداه البعيد وحتى الاستنفاد، وحان الآن وقت الردّ عليها.
في العمق
بعض تفاصيل المواجهات، تحمل مؤشرات كثيرة، لا سيما التقصد الإسرائيلي في تنفيذ عمليات نوعية ضد مخازن صواريخ، أو مواقع أساسية للحزب، بالإضافة إلى منازل يستخدمها مقاتلوه لتنفيذ عمليات أو عقد اجتماعات لوجستية. وهو ما يتقصد من خلاله الإسرائيليون القول إنهم يمتلكون عناصر معلوماتية مهمة، سواءً عبر قدرات بشرية “عملاء” أو من خلال عمليات الرصد والتنصت. وبالتالي، يشيرون إلى أن كل الاستهدافات لأبراج المراقبة والتنصت العائدة لهم من قبل الحزب لم تنفع. كما لا بد من تسجيل نقطة تتصل بالعمق الذي تطاله الغارات، بالإضافة إلى نغمة جديدة يتم العزف عليها في اسرائيل، حول امتلاك حزب الله لأنفاق مشابهة لأنفاق حماس، وأن المستوطنين يتخوفون منها، وكأن ذلك فيه تحريض على ضرورة شن الحرب.
تبلغ الاستفزازات الإسرائيلية مدى أوسع من خلال الاتصالات التي يجرونها ببعض أصحاب المنازل قبيل استهدافها. وسجلت أكثر من حادثة في هذا الصدد. اذ سجلت اتصالات من قبل الجيش الإسرائيلي ببعض أصحاب المنازل التي استهدفت وطلبوا من سكانها إخلائها. وهذا أيضاً حصل قبيل الغارة على منزل بيت ياحون، الذي استشهد فيه نجل النائب محمد رعد مع مجموعة من الكوادر. الأمر نفسه كان قد حصل لدى استهداف معمل الألمنيوم في منطقة الكفور، إذ اتصل الإسرائيليون وعرفوا عن نفسهم بأنهم من الجيش الإسرائيلي بصاحب المنزل الذي لم يجب على الاتصال، فاتصلوا بهاتف زوجته، التي أجابت وطلبوا منها إخلاء المنزل، ففعلت مع زوجها. وبعد الخروج عاود الإسرائيليون الاتصال وكرروا السؤال حول وجود أحد الأشخاص في المنزل، لكن العائلة نفت ذلك قطعياً، أصر الإسرائيليون على روايتهم لتكتشف العائلة أن الزوجة قد نسيت هاتفها في الداخل. وبعد استعادته والمغادرة تم قصف المعمل والمنزل أعلاه.
في أحداث أخرى مشابهة انتحل الإسرائيليون صفات لبنانية إذ عرفوا عن أنفسهم بأنهم من أحد مخافر المناطق الجنوبية لمطالبة الأهالي بمغادرة منازلهم. يريد الإسرائيليون القول عبر ذلك إنهم يتجنبون استهداف المدنيين، إلا بالخطأ، ويحاولون تبرير عملياتهم، كما يشيرون إلى أن الضربات التي يوجهونها تكون غالباً موجهة وعلى “الصائب”، وليست استهدافات عشوائية.
إذا أتت الحرب
إذا فرضت إسرائيل الحرب على حزب الله، فحينها سيكون هناك إعادة تموضع سياسي كبير لمكانة الشيعة في الداخل اللبناني. فبحال كانت الحرب على مثال غزة، ستكون أثمانها كبيرة جداً على البنية السياسية للطائفة الشيعية، وسيؤثر ذلك على دورهم ووضعيتهم في بنية النظام السياسي اللبناني، سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً.
وهذه كلها يعلم بها الحزب. ولذا هو لا يريد الذهاب إلى حرب واسعة. لذلك هناك من يحاول التركيز مع الحزب على ضرورة الذهاب إلى اتفاق سياسي، تحت عنوان “الردع السياسي” بدلاً من الردع العسكري، خصوصاً في ظل الاستشراس الإسرائيلي والدعم الأميركي.
جزء أساسي من الذهاب إلى حرب كبرى من قبل الإسرائيليين يدخل فيها عامل نفسي إسرائيلي وربما أميركي أيضاً، لإزالة كل ادعاءات الحزب وإعلاناته عن انتصار بعد حرب تموز في العام 2006. ولذلك هناك من يحاول دولياً تجنب هذه الحرب ومنعها، والعودة إلى ما يسمى بـ”الردع السياسي”.