يحرص الحزب ومسؤولوه على التزام صمت كامل في ما يتعلّق بالتباين بينه وبين جبران باسيل. هي طبيعة تكوينه الحديدي. وطبيعة ناسه في حصافتهم والدماثة حتى الحياء. أو هي قاعدة شرعية أن “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.
لكنّ عبارة واحدة من السيّد كشفت كلّ المضمر. في خطابه يوم 6 آذار الماضي، قال الأمين العامّ للحزب: “بيجي يوم ومنقول ببناء الدول ومكافحة الفساد شو عملنا وشو عملتو وشو عملنا سوى”…
يبدو أنّ هذا اليوم قد جاء…
******
يُنقل عن أحد مسؤولي الحزب قوله بمرارة وأسى كبيرين: “ما من عين في الحزب لم تبكِ ألماً، نتيجة سلوك جبران باسيل المستعلي حتى النزق، معنا ومع حلفائنا ومع كلّ الناس. لكن ما من شفة اشتكت بكلمة. لأنّ هذا أمر السيّد”.
الذين يعرفون دواخل هذا التنظيم المقفل، يجزمون أنّه منذ زمن طويل، لم يعد لباسيل من يحتمله من قيادات الحزب، إلا رأس هرمه.
وهنا كانت المصيبة. ذلك أنّ صهر الجنرال أدرك تلك الحقيقة. فتمادى في استعداء الجميع. متّكلاً بشكل استفزازي على مكانته المزدوجة، عند السيّد وعند العمّ. فأفرط في التدلّل.
في السياسة، وعلى الرغم من كتمان الحزب الشديد، يُنقل عن الأوساط القريبة منه، أنّه تكفي واقعة واحدة لشرح كلّ شيء.
لا لزوم للكلام عن دعم الحزب لباسيل نيابياً ووزارياً. وصولاً إلى توسيط دمشق وطهران مراراً وتكراراً لصالحه. ولا لزوم لفتح الملفّات الحسّاسة والمحظورة وغير المنظورة…
تكفي هذه الواقعة لتفسير وتفصيل كيف تصرّف الحزب مع باسيل. وطبعاً مع عون.
في السياسة، وعلى الرغم من كتمان الحزب الشديد، يُنقل عن الأوساط القريبة منه، أنّه تكفي واقعة واحدة لشرح كلّ شيء
ماذا فعل مستشار خامنئي في بيروت؟
ذات يوم من أواخر تشرين الثاني 2015، وصل إلى بيروت مستشار خامنئي، علي أكبر ولايتي. ولفهم أبعاد الخطوة، كان حسين أمير عبد اللهيان، وزير الخارجية حالياً، مرافقه. كانت لقاءات رسمية وأخرى شكليّة. لكنّ السبب الفعليّ لزيارته يومها كان التالي:
جاء يقول للأمين العامّ للحزب إنّ موسكو أوفدت إلى طهران مسؤولاً رفيعاً للبحث في الملفّات المشتركة. ومنها سؤال من القيادة الروسيّة موجّه إلى القيادة الإيرانية: “لماذا لم يُنتخب رئيس للجمهورية بعد في لبنان؟ لقد علمنا من سعد الحريري أنّه أبلغ حليفكم سليمان فرنجية تأييده له. وموافقته على انتخابه رئيساً. لكنّنا فوجئنا بأنّ الأمر لم يحصل. فما هو تفسيركم لعرقلة حلفائكم في بيروت، انتخاب حليفهم رئيساً؟”.
هذا كان فحوى ما نقلته موسكو إلى طهران. وهو ما نقله مستشار خامنئي إلى السيّد شخصيّاً، طالباً منه أن يزوّده بجواب مقنع تردّ به طهران على سؤال موسكو.
ومتى كان ذلك؟ في تشرين الثاني 2015. أي بعد أسابيع قليلة على دخول روسيا الحرب السوريّة إلى جانب إيران والحزب وحلفائهما هناك. وذلك نتيجة مساعٍ حثيثة، أبرز من تكبّدها قاسم سليماني بالذات.
تصوّروا المشهد إذن: روسيا التي تخوض حربها في سوريا دعماً للحزب وحلفائه، تسأل لماذا يرفض الحزب انتخاب حليفه فرنجية رئيساً للجمهورية؟!!
على الرغم من تعقيدات تلك اللحظة، ومع كلّ الالتباسات، قال السيّد لمستشار خامنئي: قولوا لهم إنّها مسألة لبنانية. أمّا السبب الفعليّ لموقفنا، فهو أنّنا التزمنا مع ميشال عون. ولن نتراجع عن هذا الالتزام!
تخلص الأوساط نفسها إلى القول: كاد موقف السيّد يومها يشوّش على خطّ موسكو طهران دمشق. وفي توقيت شديد الدقّة. ومع ذلك لم يبدّل تبديلاً. فهل من ضرورة لمزيد من الكلام في السياسة؟!
أمّا قضيّة دعم فرنجية فبسيطة جدّاً. التقى السيّد بفرنجية وباسيل. تباحثوا وتناقشوا وانتهوا إلى سؤال: هل أنت مرشّح؟ قال فرنجيّة نعم. فيما قال باسيل لا. وقد أخطأ لحظتها. تقول الأوساط ذاتها. كان عليه أن يعطي جواباً أكثر التباساً أو تركيباً.
هل جبران هو ميشال عون؟
لكنّ مشكلة جبران في مكان آخر.
مشكلته أنّه يؤمن في قعر عقله الواعي واللاواعي، أنّه هو ميشال عون. لا بل هو ميشال عون الأوّل. والجنرال هو الثاني.
هنا تبدأ أزمته مع كلّ عالمه وكلّ العالم. فما يُعطى للجنرال يستحيل إعطاؤه له. وما يُقبل أو يُحتمل من عون، لا يصحّ إطلاقاً في حالة جبران. وهذا ما لم يفهمه الشابّ ولم يقبله.
تتابع الأوساط ذاتها: منذ اللحظة الأولى للعلاقة حتّى ما قبل التفاهم، قيل له بشكل صريح قاطع: نبيه برّي خطّ أحمر. لم يكن هناك لبس ولا رماديّة في هذه القضية الوجودية. إنّها مسألة حياة أو موت بالنسبة للحزب. وهي درس قاسٍ استخلصه من تجارب مدموغة بالدم والدمار. من قلب الضاحية إلى إقليم التفّاح وما بينهما وما بعدهما. درس حفظه الحزب حفراً في وجدانه. وكذلك فعلت بيئته الشيعية. على عكس ما تعامل معه ربّما زعماء المسيحيين حيال دروسهم الدمويّة الخاصّة والمقابلة.
بالتالي لا يمكن محاسبة الحزب ولا معايرة بيئته، بأنّهما اعتبرا من درس الدم ولن ينسوه أو يكرّروا مآسيه.
منذ بداية العلاقة قيل لجبران: الخلاف مع برّي ممنوع ومحرّم ومستحيل. والباقي كلّه للبحث.
لكنّ جبران هو من حاول التذاكي في الموضوع والتلاعب على أكثر من خطّ. في النهاية، كان أمام خيارين: إمّا أن يجعل من عهد ميشال عون عهد فؤاد شهاب الثاني. وإمّا أن يجعل منه فرصة لينصّب نفسه ميني نبيه برّي مسيحيّاً.
لم يتردّد لحظة في الذهاب إلى الاحتمال الثاني. وحين فشل فيه، لمليون سبب وسبب، أراد تحميل الحزب مسؤوليّة فشله.
حتى وقعت 17 تشرين. ولم يكن الحزب ضدّها. لا بل كان أوائل ناسها وطلائع متظاهريها من بيئة الحزب. من فقرائه الذين لم يشبعوا انتصارات كونية. ولم يكفِهم تحرير القدس خبزاً ومسكناً وتعليماً وطبابةً واستشفاءً وحياةً في غير غيتوات قاتلة أو أحزمة بؤس.
لكنّ الحزب تدرّج وتدحرج نحو الاصطدام بالشارع، لمجرّد أنّ 17 تشرين كانت ضدّ جبران بشكل محوري ومركزي. وفي تلك المرحلة تولّى الحزب حماية جبران حتى من أقرب ناسه. فيما كان هو مختبئاً في مكتب الرئيس عاجزاً عن أيّ تصرّف. أخذ الحزب بصدره مسؤولية سحل المتظاهرين. وقمع ورود شبابهم. وهو ما اضطرّه إلى رفع أبشع الشعارات مذهبيةً لتبرير ما فعله.
لماذا؟ لمجرّد أنّ سرديّة نُسجت، تزعم أنّ استهداف جبران يعني استهداف عون، وأنّ ضرب عون مقدّمة لضرب المقاومة!!
عن مكافحة الفساد وبناء الدولة
يبقى موضوع مكافحة الفساد وبناء الدولة؟
يكفي مثلان اثنان كما يُنقل عن الأوساط ذاتها. لا لشيء، إلّا لأنّهما خرجا إلى العلن. وكانا على تماسّ مع الحزب بشكل ما.
المثل الأوّل كان مسرحه مجلس النواب. ففي 22 آب 2017، كشف أحد نواب الحزب، حسن فضل الله، أنّ هناك جمعية خاصّة غير حكومية، تحتلّ مقرّاً لها داخل وزارة الطاقة، وتقتطع لنفسها موازنة سنوية حكومية، من الدولة اللبنانية، بقيمة 6 مليارات ليرة لبنانية، أي 4 ملايين دولار يومها. ولا أحد يعرف كيف تُنفق.
وللذاكرة وحسب، بعد أسابيع قليلة يحتفل جبران بمرور 15 عاماً على إمساكه بحقيبة الطاقة. فخذوا آلة حاسبة واضربوا واخلصوا إلى الأرقام. وهذا ليس غير قشّة من بيدر الإصلاح الباسيليّ.
المثل الآخر وقع قبل أسابيع أيضاً حين حصل توتّر وسجال في الإعلام على خلفيّة الرسوم والغرامات المحدثة على مخالفات الأملاك البحرية.
قامت قيامة جبران. بحجّة مراعاة “حقوق المسيحيين” طبعاً. وصودف أنّ القضية من صلاحية وزارة الأشغال، المسندة راهناً إلى عهدة الحزب. وقد تبيّن أنّ الرقم الفعليّ لمخالفات قضاء البترون وبعض جواره، مخيف. عشرات العقارات المعتدية على الشاطئ وعلى الأملاك العامّة لغايات تجارية واستثمارية مربحة جدّاً. وهي ملتبسة المُلكيّة ومخفيّة تحت أسماء واجهات و”بروكسيات”.
فوق كلّ ذلك، يخرج جبران ليقول ما يقوله اليوم. لماذا يفعل ذلك؟
أخطر ما في الأمر تكوّن انطباع بأنّ دوافع رئيس التيار لم تعُد محلّية. بل خارجية. مرتبطة بحسابات واشنطن ومشاريع مقايضات وإعفاءات ورهانات وأوهام. وهو ما ينذر بأنّ الخطوة تبدو نهائية ولا عودة عنها.
******
شهيرة المزحة التي أطلقها جبران بعد خطاب للسيد عقب حرب تموز. يومها قال الأمين العامّ إنّ دين عون في عنقه حتى يوم الدين. فاستفسر جبران من بعض مسؤولي الحزب عن معنى ذلك. فشرحوا له أنّ المقصود تشفُّع السيّد بالجنرال يوم الحساب. فحبكت النكتة مع جبران وقال لهم: بدكن ننطر ليوم الدين؟ نحنا بدنا هلّق!!
بعد 17 عاماً يستدرك المعنيّون بأنّ مزحة الرجل يومها، لم تكن مزحة على الأرجح. لا بل كانت أكثر ما قاله لهم جدّيّة.